الثيمات المحلية..

ناصر الحجاج يفحص الشعر العربي تحت مجهر الثيمات المحلية.

بجرأة معرفية لافتة يُمنهج ناصر الحجاج مفردات وارتدادات وأفكار الهامش تحت مظلة (المحلية) Vernacularism ليموضعها في موقع الضد النوعي للعولمة باعتبارها المظهر الأبرز للثقافة المهيمنة. ويقصد بالمحلية هنا توظيف “الثيمات المحلية” في قصائد الشعراء التي تشكل شعرية العمل الشعري. وهذا المفهوم الجديد في تحليل الخطاب الشعري، سواء في الدراسات اللسانية أو في حقل النقد الأدبي، هو المدخل لافتكاك العلاقة ما بين اللهجات، أو لغات الأمصار، بتعبير ابن خلدون، واللغة العربية الفصحى، أي اللغات المحكية بالنظر إلى أن العرب أصحاب ثقافات مختلفة وعقائد متعددة، مقابل اللغة المكتوبة، التي تمثل صورة أخرى للهيمنة. باعتبارها ثقافة السلطة أو المؤسسة التي تؤدي فروض هيمنتها عبر الإعلام والأدب والتعليم. وقد تطلب ذلك التمييز الإجرائي اعتماد ناصر الحجاج على آلية أخرى تتمثل في “المنهج الاستردادي” للوقوف على طريقة تعامل اللغويين القدامى ونقاد الأدب مع ما سماه “الثيمات المحلية”. حيث اقتحم منطقة وعرة جدًا على المستوى اللغوي الكاشف لأبعاد اجتماعية وسياسية وأخلاقية. ويعني بها مرحلة التعايش السلمي ما بين اللسان العربي ولهجاته/لغاته المتنوعة. كما تمثلت في مرحلة كتابة القرآن الكريم “مصاحف الصحابة”. عندما كان القرآن يُتلى بكل تلك اللغات/اللهجات المتباينة. لتعقب تلك المرحلة مبادرة الخليفة عثمان بن عفان (رضي الله عنه) المتمثلة بحرق مصاحف الصحابة، بما في ذلك استبعاد مصحف عبدالله بن مسعود، وكتابة المصحف بلغة قريش. وما أعقب ذلك من ازدراء لبعض اللغات/اللهجات، بسبب صعود العصبيات القبلية. حيث سادت ثقافة التبخيس لكل ما هو خارج إطار “التقريش” في إطار ما عُرف بـ “العجمة والرطانة والطمطمانية”. وعند هذا المفترق المبرمج، الذي تجوهرت فيه “لغة قريش” تراجعت اللهجات/اللغات الأخرى على إيقاع سطوة النحويين، الذين تسابقوا لتشييد لغة عربية فصحى تقوم على ضبط أواخر الكلمات. باعتبارها اللغة الدينية السياسية الرسمية وتحييد الخرائط اللهجية واللغوية بوصفها لحنًا. حيث تم التخلي عن ثروة لغوية هائلة، كما توسع مفهوم اللحن ليشمل كل ما ليس قرشيًا، وكل ما يشي بلهجة/لغة رديفة. وأعقب ذلك أيضًا مرحلة نقط النص القرآني وتشكيله وإعجامه على طريقة النحو. وهو المنهج الذي اعتمده الحجاج بن يوسف الثقفي بعد تحييد “كتيبة القراء”. وبذلك اتخذت اللغة الجديدة شرعيتها من النص القرآني. على إيقاع استبعاد القراءات الأخرى الموازية. وإثر تعميد اللغة العربية الفصحى كلغة رسمية دينية وسياسية ظهرت هوة ثقافية أخلاقية ما بين اللغات تركت أثرها إلى اليوم. حيث حدث الانفصال ما بين لغة مكتوبة مطابقة للقرآن الكريم على المستوى النحوي ولغة عربية محكية، غير ملتزمة بالنحو. لغة الحديث اليومي. الأمر الذي أدى فيما بعد لتبجيل النصوص المكتوبة باللغة الفصحى، والحط من لغات الأمصار باعتبارها لهجات محلية معطوبة وهامشية، لا تصلح للحمولات الثقافية. وعلى هذا الأساس انهارت النبطية والسريانية والحبشية الآرامية والمصرية القديمة وتحولت إلى لهجات مناطقية. والأهم أن كل المحاولات البحثية لدراسات أصل اللهجات التي ظهرت فيما بعد من قبل الدارسين والنقاد كانت يُنظر إليها كجهود لتهديم المقدس الديني عبر البحث اللغوي. هذا المتن التنظيري الثري هو العمود الفقري لدراسة ناصر الحجاج. وهو بمثابة مدخل مزدحم بالشواهد والأمثلة والتفاصيل الشارحة لقيم التفاعل ما بين اللغة الرسمية المكتوبة واللغات المحكية، والراسمة في الآن نفسه للخط البياني الذي سارت فيه العربية الفصحى لطمس كل ما عداها من اللهجات/اللغات. حيث عرج على أبحاث مجاميع اللغة العربية والدراسات الاستشراقية المعنية بدراسة اللغات العربية بوصفها مكونات محلية رافدة للسان العربي العام. ليتقدم باتجاه “ثيمة الغناء المحلي” باعتباره نسقًا من أنساق الثيمات المحلية في الشعر العربي الحديث، إلى جانب الأمثال الشعبية، وكذلك ما سماها بالشوارد اللغوية idioms. بموجب تلك السردية التحليلية يُعلي البحث من قيمة الثيمات المحلية باعتبارها “العنصر الجوهري في بنية اللغة بشكلها الحي المتداول في المجتمعات المحلية”. وذلك هو ما يحتم دراسة خصائص المجتمعات المحلية، إلى جانب دراسة الشعر الشعبي لكونه الممثل الطبيعي لشخصية المجتمع. وهو ما يدفع بالبحث نحو إعادة النبش في الفضاءات اللهجية، اعتمادًا على التحليل الثيمي لا بشكله الموضوعاتي، بل بمعناه التفصيلي الواسع، الذي يبحث في اللهجات المحلية. وبما هو المنهج الأقدر على فحص الثيمات المحلية، وتحديد معالم الجغرافيا اللغوية للمحليات واقتحام الحقل الدلالي للنص وجوهر شعريته. وعلى هذا الأساس يستدعي بعض النماذج المدللة على قدرة بعض الشعراء العرب المعاصرين على توظيف الثيمات المحلية. حيث تتوفر تلك النماذج في شعر أدونيس ومظفر النواب وصلاح عبدالصبور وعبدالله البردوني وبدر شاكر السياب. كما يفصح عن ذلك علم اجتماع اللغة الذي يفحص التباينات الثقافية والاجتماعية والنفسية والمستويات الصوتية والتلوين العاطفي لكل تجربة شعرية انسانية. حيث يتضح في تلك التجارب لغة اليومي والحس الاجتماعي الحاضر بقوة في النصوص الشعرية. كما عبر عن ذلك الهاجس يوسف الخال بقوله “إن الحداثة الشعرية رهن بدخول الحقول الخصبة للغة الناس”. أما المثال الأكثر استدعاءً للتطبيق فهو الشاعر بدر شاكر السياب. الذي أتقن الدرس الاليوتي وطبقه بامتياز. وباعتباره الأكثر جرأة وتوظيفًا للثيمات المحلية. وبتنويعات مختلفة. حيث يدرس البحث تجربة السياب الشعرية بعمق وتوسع وكأنه يعيد قراءتها تحت مجهر الثيمات المحلية. ففي مدار الإبدال المفرداتي -مثلًا- استخدم مفردة “البَلَم” عوضًا عن مفردة “الزورق أو السفينة أو القارب” ليجسد الصورة المحلية بأمانة تعبيرية. حيث الفضاءات الريفية كما يعرفها العراقيون والبصريون بشكل خاص وذلك بقوله: “وهو الأصيل وأنت في جيكور تجتذب الرياح منك العباءة فاخلعيها ليس يدثر الضياء يتماوج البلم النحيل بنا فتنتثر النجوم من رفة المجداف كالأسماك تغطس أو تعوم” كذلك وظف الأغنية المحلية في شعره بتنويعات مختلفة، أكسبت النص الشعري ألفة، وجعلته أقرب للتلقي. حيث أكثر من الطرق على ثيمة الغناء. أحيانًا بالتضمين عندما يقول “بالأمس حين مررت بالمقهى رأيتك يا عراق … وكنت دورة اسطوانة”. وتارة بالتصريح كقوله “أين العراق؟ وأين شمس ضحاه تحمله سفينة … في ماء دجلة أو بويب؟ وأين أصداء الغناء”. وكأن الغناء بحقليه الدلالي والمعجمي هو المعادل الموضوعي والروحي للعراق. حث تعمل “الأغنية” بكل تداعياتها اللفظية كخلية مفسرة لجانب كبير من قصائده. وذلك في فضاء استدعاء المكان العراقي. هكذا تعمل القصيدة السيابية في تفاعلها مع فكرة الغناء وخصوصًا الغناء الشعبي الذي يحضر بقوة في نصوصه عبر ألفاظ فارطة في المحلية نتيجة استلالها من أغاني المهد والأعراس والحقول. لدرجة أن الناقد عبدالواحد لؤلؤة سماه “المغني الريفي” نظرًا لأن أسلوبه الشعري يشبه إلى حد كبير الأسلوب الغنائي. فهو بارع في امتصاص رحيق الأغنية الشعبية وتفصيحها مع الحفاظ على حسها الشعبي وكثافتها الغنائية. حيث كرر هذا النمط التحويلي في قصائد كثيرة لعل أبرزها قصيدة “المومس العمياء” التي استل بعض مركباتها اللفظية والروحية من أغنية “آه يا سليمة” التي تقول كلماتها “آه يا سليمة .. يا سليمة … نامت عيون الناس … لبي شِينيمه”. حيث تحولت في قصيدة السياب إلى: “عمياء أنت وحظك المنكود أعمى يا سليمه. وتلوب أغنية قديمه في نفسها وصدى يوشوش: يا سليمه، سليمه نامت عيون الناس. آه... فمن لقلبي كي ينيمه؟” الكتاب مسرود بلغة أدبية شهية. وبرصانة أكاديمية لافتة. وبثراء اصطلاحي يراعي منابع المصطلحات الأجنية، وفي ذات الوقت يموضع المحلية مقابل ثقافة العولمة المهيمنة للتأكيد على أصالة الهوية الثقافية، وتعزيز كينونة الإنسان عبر الفنون والآداب، التي تختزن مجمل خبرات الشعوب انطلاقًا من اللغة باعتبارها بيت الكائن، حسب مارتن هيدجر. إذ يمكن للمحلية بمعناها الفطري والثقافي المثول أمام مهبات العولمة. كما ينهض الكتاب على تحليل خطاب بارع، يمفهم الجغرافيا اللسانية من خلال فحص الخصائص الاقليمية بين اللغات، وفهم السياقات الثقافية، إلى جانب فهم العلاقة ما بين الأيدلوجيا واللغة، واستيعاب التنوع الاجتماعي من خلال المكون اللغوي، انتصارًا للتعددية اللغوية.