حروب التحرّر من الوهم .. نهاية الاستعمار أم بدايته؟
«الواقع الافتراضي» هو عنوان المرحلة التي نعيشها اليوم، فهو واقع ولكنه مصنوع في الذهن، واقع نعيشه بحواسنا ولكن قراراتنا تتبع عقولنا المرتهنة للعالم الافتراضي، فهو عالم من الوهم المصطنع؛ لكنه بدأ يشكّل بصرنا الجديد، وسمعنا الجديد، وأذواقنا الجديدة، وعلاقاتنا الجديدة؛ بل ومعتقداتنا الجديدة وغيرها. خلال الحرب العالمية على قطاع غزة التي تشنها إسرائيل وبعض الدول الغربية، لاحظت من خلال متابعة بسيطة من شخص غير متخصص بالإعلام؛ حجم المعركة الكبرى التي تشنها مؤسسات إعلامية وحقوقية وسياسية على عقول الناس لأجل صناعة وهم جديد يبرّر الانتقام والفتّك المروّع الواقع والمتوقع في منطقة معزولة يعيشها قرابة 2.3 مليون إنسان –حسب إحصائية 2023م-، قطعا ليسوا جميعا من عناصر المقاومة، ومع ذلك نشهد نشاطا محموما في صناعة وهم جديد يبرّر كارثة إنسانية قد يشهدها التاريخ؛ تذكره بمآسي الحروب العالمية، حرب تصريحات سياسية، ودعوات شعبية للانتقام من شعب فلسطين المحتل والأعزل، بيانات تنديد لمشاهير الفن والإعلام، حتى الجهات العلمية(الموضوعية) دخلت هذه الحرب العنصرية، مثلما فعلت جامعة هارفارد في بيانها الأخير الداعم لإسرائيل. المأساة الفلسطينية الحديثة لا تختلف عما سبق من مجازر طوال 70 عاما، لكنها اليوم تحدث بشكل صارخ؛ والعالم كله يتحدث عن الحرية، والمساواة، وحقوق الإنسان، والعدل، والسلام، والحرب على الإرهاب، كل تلك المبادئ الإنسانية أصبحت مجرد أوهام لا يعرفها الشعب الفلسطيني، فهو محروم من العدالة والسلام والمساعدات الدولية، وهو أكثر شعوب الأرض حاجة لها، ويُجبر على الصمت بجراج تنزف، وأنين لا ينقطع، لسبب واحد أن خصمه هو الكيان الصهيوني المحتل!، ذلك الطفل المدلل للغرب، هذه المقابلة بين حقوق الإسرائيليين وحقوق الفلسطينيين لم تعرف الحل الناجع منذ زمن طويل، ولن تعرفه مادام هناك وسطاء محابون، وقضاة مراوغون، وعالم لا يؤمن إلا بالغالب القوي، أمام هذه الحالة من التغييب المقصود للحقيقة، وخَلق واقع من الوهم الافتراضي المفروض على العالم، أضع بعض الرؤى عن مستقبل هذه الحرب الوهمية على وجداننا وعقولنا، في المسائل التالية: أولا: أعظم صناعة عالمية قدمها الغرب للعالم، هي فن صناعة الوهم، وكيف يعيش العالم غواية تفوّق الغرب المطلقة في كل شيء، هذه الصناعة الخادعة لا تعني أن الغرب لم يقدم للعالم شيئا من المنتجات الصناعية المحسوسة التي تثبت تقدمه المعرفي والصناعي، ولكن أولئك الصنّاع عندما يريدون الاستحواذ والسيطرة، فإنها يلتمسون الوسائل الناعمة في صنع هيمنة يجفل منها الواهم وكأنهم الوحش المفترس، رغم أنهم لم يثيروا رعبا في الواقع، فأفلام هوليود الأمريكية صنعت على مدى عقود السوبرمان الغربي وبشعّت الهمجي الروسي والعربي والصيني وغيرهم، كما أن أمريكا من خلال جامعاتها وإعلامها وحداثتها واقتصادها النيوليبرالي قد صنعوا نمورا ورقية من تفوق علمي يحقق الجوائز ويتقدم في التصنيفات العالمية، ونفوذ مالي تحميه مؤسسات بنكية ذات صفة دولية، جعلت أهم عملة في العالم (الدولار الأمريكي) يوضع كغطاء موثوق لأكثر بنوك العالم، رغم أن الدين العام لأمريكا تجاوز 33 ترليون دولار في سبتمبر الماضي، إنها الأوهام البرّاقة؛ ولكن قيودها الواقعية أقوى من الفولاذ، ولا ينتهي الأمر عند ذلك، فكم هي الأوهام التي حركت العالم وقلبت الطاولات ثم غادرت بصمت، مثل دولة داعش الإرهابية، أو فايروس كورونا الشرس، أو القوة العسكرية التي لا تهزم (رغم كل الهزائم في كل حرب خاضتها)، أو الثورة المعلوماتية التي تعرف حركة دبيب النمل، لكنها تعجز في إيقاف جرائم القتل والعنف والسرقات التي ارتفعت في المدن الأمريكية بشكل خطير هذا العام، ولأول مرة في تاريخها، أو الدروس الحقوقية التي تهددنا بها في كل مناسبة، رغم عنصريتها وإبادتها للشعوب الأصلية في أرضها. والقائمة تطول من الأوهام التي نراها بطولات ومنجزات متكررة ومتداولة بحيث لا يجرؤ أحد على تكذيبها أو حتى التشكيك فيها، ثم ماذا ؟! هل سيطول ليل الوهم ويصحو العالم من ذلك الخداع؟! ثانيا: صناعة الوهم ووضع قيود العبودية في عنق الآخر، ليست بالعمل السهل أو القصير؛ بل هو عمل طويل الأمد يحتاج إلى خبرة عميقة في طبائع الدول والمجتمعات، ومواكبة للجديد من نظريات الخداع النفسية والعقلية، والدول الغربية الاستعمارية اتقنت هذه الصناعة، وضخّمت دورها وقزمت أعداءها في كل الدول التي اغتصبت ثرواتها وقتلت شعوبها. وقديما ذكر القرآن الكريم تقدّم أهل الكتاب في هذه الفنون الخادعة كما في قوله تعالى:» يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ» (آل عمران 71) وفي آية أخرى قال تعالى:» وإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (آل عمران 87)، تخيلوا أنهم خدعوا أتباعهم والعالم بعقائد ومقولات نسبوها لله تعالى وذكروها عن أنبيائهم زورا وبهتانا حتى اليوم، ولم ينته مسلسل الخداع وبيع الأوهام الكارثية، فمنذ إحلال الكنيسة كإله أرضي يديره القساوسة، إلى خدعة صكوك الغفران ولعبة الخطيئة، إلى أوهام الفلسفة، ومركزية العقل، وعصر الحداثة، وعقيدة التقدم، والعالم كله يعيش أوهاما مغرية أمام مائدة حقيقة؛ أطعمتها مصنوعة من الوهم، ومع صخب التفوق والرهبة والرغبة؛ شاركهم المخدوعون لذة الأكل والشرب حتى التخمة. واعتقد أن الحركة الصهيونية عبر تاريخها الضارب في القدم من أهم صنّاع الأوهام وأكثر المخادعين ذكاء ودهاء، فمن محتل غاصب إلى صاحب شرعية دولية، ومن مزيف للتاريخ إلى مصدر موثوق للتعليم، ومن سارق ولص إلى شريك تجاري ، ومن قاتل وسجّان إلى داعية سلام وأمان، هذه حقائق جلية، شواهدها يومية وعلى شاشات التلفزة العالمية، وتطبيقات التواصل الاجتماعي، ومع ذلك تم تصديق الوهم وتكذيب الحقيقة، فتسويق تلك الدعايات الكاذبة وإبرازها في المؤسسات الدولية، وتكرار خروج القراصنة والدجّالين على هيئة محترمة وبأناقة فارهة؛ زاد من قبول الوهم والإيمان بصدق تلك المزاعم!. أرأيتم كيف أصبح العالم يملك عقول أطفال تشاهد مسرحيات خيالية بعواطف لاهبة؟! ثالثا: أعظم قضية خرج بها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، هي ضرورة منع تلك الانتهاكات والمآسي الإنسانية، فكان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وما تبعته من مواثيق دولية، وأصبحت هي الصدى الحقيقي لتلك المطالبات، وهي قضايا صادقة وعادلة وضرورية لأي إنسان، لكن كيانات السعي لزعامة العالم، والهيمنة على البشر، لم تستجب لهذه الحقوق التي تعارض تلك السيطرة، فسعت كالعادة لخلق الأوهام من جديد؛ بأنها دول حقوقية، ومن يخالفها يخالف حقوق الإنسان، وعادت من جديد مسرحيات الوهم والخداع، فمنذ أن ألقت أمريكا قنابلها النووية على العزل الآمنين في هيروشيما ونجازاكي والدعاية الأمريكية تبرر أخلاقية الإبادة، واقتنع العالم، حتى أبناء الضحية اليابانيين صدقوا استحقاقهم للإبادة !. إن ما يحدث للفلسطينين اليوم أمام العدوان الصهيوني في حربهم لغزة يعدّ من أبشع الجرائم والانتهاكات الإنسانية، فقتل المسعفين والإعلامين وتعمد قصف مناطق المدنيين العزل وتدمير المدارس والمساجد هو انتهاك فاضح لاتفاقيات جنيف 1949، والبرتوكولين الإضافيين 1977، وللإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948، كما أن منع الماء والكهرباء وقطع امدادات الغذاء لمنطقة يعيش فيها أكثر من مليونين مع إغلاق محكم لمنافذ الحياة عنهم؛ يعدّ من جرائم الحرب وعقاب جماعي لأفراد مدنيين؛ بنص قانون المحكمة الجنائية الدولية الدائمة في روما 1998، ولكن هل يمكن أن تغيّر هذه البدهيات الحقوقية الواقع الحربي في إسرائيل؟!، فوزير الدفاع الإسرائيلي يشبه الفلسطينيين بالحيوانات وأنهم يستحقون الإبادة، ورئيس وزراء بريطانيا يرفض المساواة بين الضحايا الفلسطينيين والضحايا الاسرائيليين الأهم في البقاء والعيش، والرئيس الأميركي بايدن يؤكد أن دعم بلاده لإسرائيل «صلب كالصخر» مع وقوف تام ودعم غير محدود لإسرائيل دون اعتبار لموقف بلاده الزاعم بالسلام. صحيح أنها تناقضات صارخة وعري مكشوف مع الظالم، ولكن إلى متى ستستمر مثل تلك المغالطات القبيحة أمام الجميع؟!. وأخيرا أودّ أن أختم هذه المقالة بأمر يهمنا جميعا؛ فالرقص الدامي على الجراح النازفة لن يستمر مشاهدوه في التصفيق، والأوهام مهما كانت مُحكَمة الاتقان فلن تدوم طويلا، والتآمر على الدول -خصوصا الإسلامية- لن يتوارى خلف أقنعة الأمم المتحدة والزيف الحقوقي، هذا اللعب المكشوف ينذر بمواجهات دامية قد تحرق العالم كله، والمؤامرات الغربية ذات اللباس الديني والعرقي ستفجر أشد الأيديولوجيات عنفا في العالم، حتى لو كان هذا الصدام الحضاري متوقع وحاضر في الذهنية الغربية الاستعمارية؛ إلا أن واقع مجتمعات الغرب لا يخوّلها للانتصار مرة أخرى مهما صنعت من أوهام أو أعادت السحر من جديد؛ بل هي تتجرع سكرات الاحتضار بمقاومةٍ ضعيفة واستنزافٍ أكثر لكل مكتسباتها الدفاعية، ثم ماذا بعد ذلك؟! أضف إلى هذا السؤال، سؤال آخر يختبئ خلف تلك الصراعات المعجونة بالتاريخ والدين والرغبة الاستعمارية: هل نحن على اعتاب تشكّل خريطة جديدة للعالم ترسم الدماء حدودها؟ هل هذا ما يريده الغرب اليوم؟!. في هذا الخضم المتلاطم، أرى بوضوح أن هناك منارة واقعية للإرشاد من ذلك التيه القديم الحديث، سفينة انقاذ حقيقية تقودها السعودية، ترمي للجميع أطواق نجاة للعيش المشترك والسلام الدائم، الكل يعلم يقينا أن السعودية لم تفرّط في واجباتها العروبية، ولم تستغل ريادتها الإسلامية في شعارات تتاجر بها، ولم تتخلف عن تقديم المساعدات الإنسانية رغم الاتهامات الصريحة والمبطنة، فهي تعمل بصمت، وتقاتل بشرف، وتحضر أمام الصديق والعدو بوجه صادق لا زيف فيه، هذا النموذج الأمين ربما ينجح في تبديد أوهام الدجل، ويمنح الدول الحرة الوقوف الصادق معنا ومع المظلوم؛ ولو كره المتربصون.