مدن النور والضباب.
رواية “قصّة مدينتين” A Tale of Two Cities هي إحدى روائع الكاتب الإنجليزي “تشارلز ديكنز”، صدرت لأول مرّة عام 1859، وتُعتبر من كلاسيكيات الأدب الإنجليزي، وتجمع بين التاريخ والدراما والرومانسية، مع نقدٍ اجتماعي وسياسي عميق. تدور أحداث الرواية في مدينتيّ “لندن” و”باريس” خلال فترة الثورة الفرنسية، حيث يُصوّر ديكنز الصراعات الطبقية وظُلم السُّلطة وعُنف الثورة، مع التركيز على حياة الشخصيات وتأثير الأحداث عليها. افتتح ديكنز الرواية بمُقدّمةٍ تحوي السطر الأشهر في تاريخ الرواية الإنجليزية، بقوله: “لقد كان أحسن الأزمان وأسوأ الأزمان، كان عصر الحكمة وعصر الحماقة، كان مهد الإيمان ومهد الجحود، كان ربيع الأمل وشتاء القنوط..”. وعند الحديث عن تلك المدينتين أيضاً، نتذكّر كتاباً نشره الكاتب الإنجليزي “جورج أورويل” في عام 1933، بعنوان “مُتشرّد في باريس ولندن” Down and Out in Paris and London، ناقش فيه قضية الفقر في المدينتين أثناء فترة الكساد العالمي العظيم في ثلاثينيات القرن العشرين، حيث قام برحلات استقصائية اضطُرّ فيها للعمل في غسل الصحون في مطاعم باريس، والنوم في حانةٍ للمتشرّدين في لندن. يقول أورويل في كتابه عن أحد المتشرّدين الذين قابلهم: “قد يرتدي الأسمال، ويشعر بوطأة البرد، ويتضوّر جوعاً، غير أنه كما قال لي؛ يظلّ حُرّاً ما دام يستطيع القراءة والتفكير ومُراقبة النجوم”. وربما، على سبيل المقارنة الطريفة بين المدينتين، يجوز لنا القول بأن باريس قد حظيتْ على مَرّ العصور بالاهتمام الأكبر من جانب الكُتّاب والشُّعراء، ومن هؤلاء الأُدباء العرب: رفاعة الطهطاوي وطه حسين وزكي مبارك وسهيل إدريس وتوفيق الحكيم.. وغيرهم. لقد عُرفتْ بفضلهم “عاصمة النور”؛ أي منارة الثقافة الرفيعة والفنّ والجَمال، وأصبحت بعض أسماء الأماكن في المدينة، مثل: الحي اللاتيني ومونابارناس ومونمارتر وغيرها مألوفةً في كثير من الأعمال الأدبية. تتميّز باريس بأن تاريخها حاضرٌ يواجه الزائر في كلّ مكان، فهو تاريخٌ مُجسّم تشهد عليه معالمها المادية مثل المباني والجسور والطُّرقات، وهي من هذه الناحية لا تختلف كثيراً عن غيرها من العواصم الأوروبية العريقة؛ مثل “روما” و”فيينّا” وغيرها.. ولكن يُخيّل للمرء أن الفرنسيين نجحوا، عن طريق تُراثهم الثقافي، في جعل معالم مدينتهم ناطقةً بتاريخها وأساطيرها. أما جَمال لندن، فقد يظهر في مَيل أهل البلاد إلى التّسامح وتقبُّل الاختلاف وقد يستحسنونه، وهي إذن مدينة التّعدد الثقافي، التي لا يسير المرء في شوارعها أو يتنقّل بين أحيائها، إلا ويُلاحظ أجناسا ًولُغات وأزياء شتّى، فكأنه يرى العالَم بأسره في مكان واحد، ويُلاحظ المرء أيضاً أن أهل البلاد يٌحسنون مٌعاملة الوافدين. ولا يعني ذلك أن المدينة لم تشهد بين فترة وأخرى في تاريخها بعض أشكال التعصّب ضدّ فئة أو أخرى من الأجانب، أو أن بعض قطاعات المجتمع ما زالت تُبدي الضيق بالمُهاجرين، ولكن يبدو أن لندن تتفوّق على كثيرٍ من المُدن الأوروبية في ترسيخها لفضيلة التّسامح، ومما يُساعد على ذلك أنها تفتح الباب على مصراعيه للتجارة والاستثمار، وهي بمثابة المتجر الكبير والمعرض الدائم للمنتجات المادية والثقافية. إن الإقامة الطويلة نسبياً للزائر “لمدينة الضباب”، تُتيح له أن يستكشف الثروة الثقافية الباذخة التي تزدان بها في مجالات الفنّ والثقافة، وسيكتشف لدهشته أن لُغة الإنجليز -وهُم أهل تجارة ونزعة واقعية- التي أصبحت لُغة العلوم والتكنلوجيا على صعيدٍ عالمي، تنطوي على قُدرات أدبية وشِعريّة هائلة، وسيكتشف أيضاً أن المدينة -رغم ضبابها وبردها ومطرها- حيّة، تبقى ساهرة مفتوحة الأبواب لأغلب النوادي والمطاعم والمقاهي طيلة الليل. إن أحد جوانب الاختلاف الرئيسة بين المدينتين، هي أن الباريسيين يتمسّكون بلُغتهم ويتعصّبون لها، ويُصرّون على استخدامها حتى لو كانوا يُجيدون غيرها من اللُّغات، ولذا فإنه ليس من غير المألوف أن يجد الزائر بين أهل المدينة من يتأفّف إذا سمعه ينطق بلُغة أجنبية، وتلك عادةٌ لا يوجد لها نظير في لندن، بل قد يوجد مِن بين أهلها من يستمتع بلكنة الأجنبي بالإنجليزية على علّاتها، ولله في خلقه شئون!