قراءة في كتاب د.عبد الله الغذّامي (ماذا لوكنت مخطئاّ)..

السؤال الوجودي ومفارقاته وعوالمه.

في لقاء تلفزيوني مع (العربية) وضّح الدكتور عبد الله الغذّامي رؤيته في كتابه (ماذا لو كنت مخطئاً) مبيّناً مسار تجربته الذاتية و كيف عدل عن الشعر مكتشفاً أنه ليس ميدانه فانتقل إلى النقد ، حتى إذا وصل إلى قناعة بأن النقد الأدبي قد استنفد غاياته انتقل إلى النقد الثقافي، ثم أراد أن يختبر جدواه عبر قراءات خمس لنص محدد ، تاريخية وفلسفية و إعلامية. وقد كنت على يقين من أن الدكتور الغذّامي في مجمل كتبه يميل إلى اختيار محور رئيس يناقشه من جوانبه كافة ، ويحيط بأبعاده المختلفة ، ويدعمه بالأدلة ويثريه بما أفاء الله عليه من معرفة محيطة بموضوعه ، ويمثّل له ، ثم يعمد إلى مناقشته وكأنه مُحاط بثلّة من المتخصصين فيه، فيشعر القاريء وكأن المؤلف يخصّه بالحديث وحده ، ويوجّهه إليه وبذلك يشبع نزعة الأنا في قارئه ، من هنا كان شغفي بقراءة ما يكتب ؛ ولست منحازاً له ؛ فقد كنت أرى في بعض المسائل ما يجعلني أخالفه في الرأي ؛ وهذا أمر طبيعي ؛ ولكنني ممّن تهوي أفئدتهم إلى المعرفة وإلى كسر المعتاد فيما هو ذائع و شائع فيروي ظمئي ويسدّ حاجةً فطريةً في نفسي. كنت اعتقد قبل أن أقرأ الكتاب أن ما صرح به الدكتور الغذّامي للعربية يمثل خلاصة ما جاء في الكتاب ، وأن الكتاب ينطوي على السيرة الفكريّة للمؤلف الذي خرج من خيمة النقد ليصعد في مراقي الفكر ؛ ولكنني حين عكفت على قراءته وجدت أن فصوله الثلاثة زاخرة بالمعرفة ،وأن الفصل الأول الذي يحمل عنوان الكتاب يدور حول عبارة محورية (أن قيمة العقل قدرته على كشف عجزه) وأن الفكرة الرئيسة (قصور العقل وعجزه عن إدراك مطلق الحقيقة) و قد استعرض مقولات الغزالي عن نظرية الذوق الصوفية وروسو حول الفطرة و الغرور الفلسفي وإهدار حرية العقل ، وحديثه عن أن الحكمة الكاملة لله، وأن العاطفة تكسر غرور العقل ، و الفطرة و الوعي المطلق، ويعرض ل (كانت) و القانون الأخلاقي ومقولته عن المفاهيم الثلاثة الكبرى(الله، الخلود، الإرادة الحرة) و ما أُُُُُُثر حول مقولة (عقلي يدلني على فطرتي و فطرتي تدلني على الله) و(هيجل) و الروح المطلقة ومقولته التي يقرر فيها أن التشدّد الديني أخطر من الإلحاد، و (ستيفن هوكينغ ) ومسألة خلق الطبيعة لنفسها و نشأة الكون والعقل العلمي، و السؤال الفلسفي وما عُرف عن آنشتين في حديثه عن عقول البشر وعجزها، والكوانتوم واحتفال رئيس الولايات المتحدة السابق (بيل كلينغتون) عام 1999 باكتشاف خريطة الجينوم ،و(كولينز) والحالة العرفانية ، وأن ما فوق الطبيعة ليس خاضعاً للقوانين الطبيعية، وقوله أن الله سابق على الانفجار الكبير وسيبقى بعد فناء الكون ، و الحديث عن لحظة التقاء الفلسفة مع العلم وأنسنة الفلسفة ، وقانون الدليل و قانون الوظيفة، وما انتهى إليه (فلو) في مسألة الإيمان وكذلك (دينيت) في موضوع الإلحاد ، ثم الحديث عن أنواع العقل : الذاتي و الموضوعي و المطلق ، وما أشار إليه (برتراند رسل) عن فساد رجال الدين وهوكينغ عن موت الفلسفة وحديثه عن سقراط وشرح نظرية هيجل ونظرية (لايبتز) عن (الوجود الضروري وجود الخالق) وتحتل مسألة الإيمان والإلحاد بؤرة الاهتمام في طروحاتهم ، وقد خطر ببالي ما ذهب إليه عدنان إبراهيم ومحاوراته مع الملاحدة ومراجعته لموقفه فيما يتعلق بآرائه حول الصحابة واعتذاراته واعترافه بالخطأ ، وكل ذلك يمهد إلى تقرير حقيقة أساس ، وهي أن الحقائق نسبية و أن تخطئة المقولات التي شاعت وذاعت على أنها حقائق لا يأتيها الباطل وهم من الأوهام. وقد استعرض الدكتور الغذامي الإلحاد و ما انتهى إليه الأمر من ترك الأسئلة للعلم ،وإطلاق عبارات الفيلسوف الحاكم (أفلاطون ) و المواطن العالمي(برتراند رسل) و(بوديار) و(التكنولوجيا وصحراء المعنى) وحاجة البشر للعودة للمشاعر و الإنسانيات لإنقاذ البشرية من انهيار المعنى، وبورخيس صاحب عبارة (بأي لغة سأموت) وسردية ألف ليلة وليلة ، ثم خلص إلى التساءل حول تبّنيه النقد الثقافي (هل كنت مخطئا ) وعمد إلى إثبات هذا التوجّه ؛ ولكن دون إطلاق الرأي فيه. وهذا السؤال كان مدخلاً إلى الفصل الثاني الذي ناقش فيه النقد الثقافي وأشار فيه ابتداءً إلى مقولة (فرانسيس كولينز) عن حالة التحوّل النفسي التي تفسّر زهده في النقد وتحوله إلى النقد الثقافي ، وتأكيد طروحاته ، وما فسّره في كتابه (إشكالات النقد الثقافي) ونظرية الأنساق المضمرة مبيّناً رؤيته لوظيفة النقد الثقافي ، وساق آراء (أنتوني فلو) ووقف عند سؤال (شتراوس ) الذي علل اتجاهه إلى النقد البنيوي بإجابته على السؤال “ لماذا الأعمال الأدبية تأسرنا؟” وقد عرض للمصطلح الذي اجترحه (المؤلف المزدوج) معبرا ّفيه عن تأثير الثقافة في الكاتب، وكأنها تشاركه هذا العمل عبر أنساقها المضمرة ، وبالتالي كانت المصطلحات الأخرى التي تشكّل مداخل رئيسة للنقد الثقافي (النسق المُضمر و التورية الثقافية و المجاز الكلّي و الجملة الثقافية) وأعقب ذلك بطرح سؤاله المهم “ هل البشر كائنات سرديةّ” في الفصل الثالث ، ويُفهم منه الخروج من عباءة الواقع والتحليق في آفاق أخرى لها علاقة بالحبكة الأدبية المبتدعة ، مُستحضرا أمثلة عديدة (ترومان وما أحدثته القنبلة الذرية من دمار شامل) وقبل ذلك نظرية أفلاطون عن ( العدالة و المساواة ) وانتصاره لعدالة القوة ونظريته حول هذه المسألة ، وجورج بوش و(محور الشر) الذي وصف به أعداء أمريكا ، وكولن بأول والتقارير الكاذبة عن أسلحة الدمار الشامل في العراق التي كانت سبباً في شن الهجوم عليه، وتوقف عند ترامب بوصفه كائناً سرديّاً عبر مواقفه المختلفة ، وإشارته إلى الثقافة المجتمعيّة بوصفها مزيجاً من التقلّبات والقيم السردية الثقافية : وإشارته إلى عبارة ( العقل وطن ) عند إفلاطون والحكم هو الفيلسوف و الجسد سجن الروح وما إلى ذلك. وقد عرض لما جاء في كتبه : المرأة و اللغة وثقافة الوهم وتأنيث القصيدة والجنوسة النسقية ، وقد استعرض معارف عدة تتعلق بالبنيوية و التشريحية في معرض مراجعاته لأدائه النقدي ، وأشار إلى خطاطة جاكبسون التي عرض لها في كتابه (الخطيئة و التكفير) مشيرا إلى عناصرها الستة ( المرسل و المرسل إليه و الرسالة والأداة و السياق و الشيفرة) مضيفاً إلى ذلك العنصر السابع المُفتقد الذي يشكّل صُلب النقد الثقافي وهو (الوظيفة النسقية) وذلك في مقارنته بين النقد الأدبي و النقد الثقافي ، و من الأمور البارزة اللاقتة للانتباه في تمثيله للمؤلف المُزدَوج استشهاده ببيت النابغة الجعدي : إذا لم تنفع فضر فإنما يرجى الفتي كيما يضرُّ و ينفعُ لقد مضى الدكتور الغذامي في ها الفصل في تتبع مقولة ماذا لو كنت مخطئا عبر ما كان يعد في بداياته مثالياً، ثم ثبت انحرافه وخطؤه في معرض حديثه عن الكائن السّردي الذي ينفصل عن واقعه، مشيراً إلى الصدام بين الفكري و السلوكي، وتحوّل المفاهيم بين الشيء و نقيضه، ويضرب مثالا لذلك ما قالته (روزينو) عن الحداثة ، حيث اعتبرت العلم و الليبرالية و الديمقراطية ضماناً للتطوّر البشري فإذا بها تفرز أخطر الحروب العالمية ، وتؤدّي إلى تحكُّم المركزية الغربية ونفي التنوع مع اعتبار الماضي تخلفاً ، فانتهت الديمقراطية إلى دكتاتورية والشاهد (صرخة السود الاحتجاجية ) على التفرقة العنصرية التي عرّت مفاهيم العدالة و الحرية و المساواة ، ويمضي في حديثه عن الكائن السردي عبر الانحرافات والمفارقات التي يرجعها إلى جذورها الأول ممثلة في (هابيل وقابيل ابني آدم) مؤكدا على تلازم الخير و الشر ، والحبكة السرديّة المختارة في الانفصال عن الواقع وكأني به يؤكد مقولة التلازم بين الخطأ و الصواب و الخير و الشر في حياة البشر ، متحدّثاً عن رد فعل البشر على معطيات الواقع مستشهدا بقصيدة قريط ابن أنيف : لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيباتا إنه يرى أن فكرة الشر ضرورية لفكرة الخير مؤيداً قوله بالظواهر الكونية (الليل و النهار) والاجتماعية عبر قصة الرجل و الكلب لجون دولان ، فكان الكلب سبباً في تخلي الرجل عن حياة اللصوصية التي عجز البشر عن إقناعه بالتخلّي عنها، والكلب (جورج) عن تشرده حيث نجح الكلب في تربية رجل مستنتجاً أن القِيَم ليست سوى سرديّة ثقافية ، ويشير إلى المفارقات التي تجعل بعض القيم الإيجابية سلبية كما جاء في جمهورية أفلاطون حول اللحظات التي تجعل الصدق ضارا. ووفق منهجه الخاص يعمد الغذامي إلى التقاط شواهده من الحياة العامة وحوادثها ذات الدلالة والطرافة ، يتجلى ذلك فيما ذكره تحت عنوان (الشتيمة إذ تصبح هوية) مفارقة عجيبة لرجل من المهاجرين الألمان ومأزق القبول والرفض لهم من محيطهم ، وذلك حين شتم النادل في سويسرا الأفغاني الألماني المهاجر (أيها الألماني اللعين) ومهما يكن من امر فإن هذا الكتاب ينطوي على ملمح مهم من ملامح الحقيقة البشرية وأسئلتها و مفارقاتها وخلاصة وافية لرؤية الكاتب للحقيقة و الحياة .