فيلم « هوبَال» ..

فضاءُ المدينةِ وفضاءُ الصحراءِ .

يطرحُ فلم “هوبَال” فكرة أساسية تقومُ على المقارنةِ بين فضائين؛ فضاءِ البادية باتِّساعه وامتداده وحرية التنقُّل من خلاله، وفضاء المدينةِ بمحدوديته وقيودهِ وعدم القُدرة على التفرُّد باتخاذ القراراتِ فيه. تتعلَّق أحداث الفيلم بعائلةٍ تعيش داخلَ الصحراء، مبتعدة عن المدينةِ “الديرة” ومُشكلاتها إذ تراها شرًّا مطلقاً؛ لهذا اتجهت إلى استيرادِ احتياجاتها عبر وسيطٍ من أبنائِها، أو من خارجهم كـ”العامل السوداني” الذي أوكَلت إليه مهمَّة تعليم أطفَالها. الحياةُ الصحراوية قاسيةٌ وشاقةٌ وتعتمد على التِّرحال، هذا ما يمكنُ رؤيته عبرَ سرعة الانتقالِ بين الأماكن، وعدم ترك أدلةٍ على البقاء والمرور؛ سوى آثارٍ محدودة سُرعان ما تختفي، كحالِ آثار “عجلاتِ السيارة، أو بقايا الملابسِ والنار”. اتِّساع الصحراء يمدُّ سكانها بقُدرةٍ على التأمل؛ ما يُكسبهم مهارات التفكيرِ والتعامل مع المشكلاتِ بصبر وهدوء، وهو أمرٌ انعكس على العائلةِ وخصوصاً الجد “ليام”، الذي أصبحَ أكثر صبراً وحكمة وأبعدَ نظراً. للارتحالِ الدائم آثارٌ سلبيًّة أبرزها فقدان الاطمئنانِ والشعور بالاضطراب، هذا ما اتَّضح لدى أكثرِ من شخصية، فـ”سرَّا” زوجة الابن “شَنار” دائمة التوتُّر بسبب مرض ابنتها “رِيفه” والخشية على حيَاتها، وحينما تلجأُ إلى زوجها الذي يُفترض أن يكون أكثرَ هدوء وحكمة، يجيبها بأنَّه يفضل موتها على أخذِها للطبيب. لا يقلُّ “نَهار” اضطراباً عن أخيه شَنار، إذ تسبَّب في مقتل أخيه “ماجد” وزوجته بحادثِ سير، حين اعترضَ طريقهما وهما متجهانِ إلى الديرة، فظلَّت صورتهما تلاحقه وتعذِّبه وتمنعه من ممارسةِ حياته بطبيعية، ففضَّل الصمت والانفرادَ عن العائلة، وصار يقضي أغلبَ وقته وحيداً. الخادمةُ “معتوقة” تعاني اضطراباً كذلك، فرغمَ اعتيادها المدينةَ واستمتاعها بحياتها فيها، فضَّلت القدوم مع العائلةِ إلى الصحراء؛ ما يشيرُ إلى وجود أسرارٍ تخفيها عن البقية، ظلَّت مكتومة ولم يطَّلع عليها أحَد. الاستثناءُ أتى من الجيلِ الأصغر متمثلاً في شخصيةِ الفتى “عساف”، فحينما رأى ابنةَ عمه تعاني المرض وتقتربُ من الموت؛ قرر سرقةَ إحدى السياراتِ وأخذِها إلى مستشفى المدينة، متتبعاً آثار والدها شَنار المسؤول عن جلبِ الماء. نجحت الخطَّة واستطاع الوصولَ إلى المستشفى، وهُناك تلقت ريفه أُولى جرعات العلاج، وبما أنَّه تواصل معها بشكلٍ مباشر، فقد تمَّ عمل فحوصاتٍ للتأكد من سلامته، لكنَّ الوقت لم يسعفه إذ وصلَ عمه وعادَ بهما إلى الصحراء، ضارباً عرض الحائطِ بكل النصائح الطبية حول ضرورةِ بقائه تحتَ الملاحظة. أخذت الحقائقُ تنكشف معَ وصول الحبكةِ إلى ذروتها، فشَنار متزوج في المدينةِ ولديه أبناء، ليتضح لاحقاً أنه تزوَّج الفتاة التي أحبها أخوه “بتَّال” وطلبَ منه خطبتها، وهو الأمرُ الذي جعلَ الأحداث تتشابكُ وتتعقَّد. اهتزَّت علاقات المودةِ والألفة والمحبة بين أفرادِ العائلة، فعساف عادَ إلى الصحراء دون تلقِّي الدواء؛ فتفاقمت حالُه نتيجة إهمال عمِّه ورفض الذهابِ به إلى المستشفى، حيثُ تصاعد الخلافُ بينه وبين أخيه بسببِ زواجه، أما نهار فقد بلغ من الضِّيق حدًّا لا يطاق، جعله يذهبُ إلى خيمة عساف ويعترفُ أمامه بالجريمةِ التي ارتكبها، وأنَّه من تسبب بمقتلِ والديه. اشتدَّ المرض بعساف بعد سماعِ الاعتراف؛ ما أصابَ زوجة عمه “سرَّا” بالهلع، فاحتالت لتحصُل على مفتاح “الوايت”، وتضعَ عساف داخله وترحلَ إلى المدينة برفقة معتوقة، لكنَّها لم تصل! فقد لفظَ الفتى آخر أنفاسهِ في الطريق. ماتَ عساف وتعافت ريفه واستمرَّت الحياة، لكنها لم تعُد كالسابق، فالعداوةُ بين الأخوين بلغت مرحلةً خطيرة، أنذرت بكارثةٍ وشيكة، لولا قدوم “جمَل” الجد وحيداً، فخرجوا يبحثون عن لِيام إلا أنَّ جهودهم باءَت بالفشل. انتهى الفيلم بنداء الجدِّ المفقود للنُّوق كي تتبعه إلى المرعى، في مشهدٍ سريالي حيث تستطيلُ أرجلها وترتفعُ عن الأرض، متجاوزة الصُّخور المتفرقة التي يقفُ على إحداها، بينما يمتدُّ الأفق إلى البعيد؛ ليمثِّل فضاء موازياً لفضاء المدينة. الفضاءُ الفارغ في الصحراءِ قابله فضاءٌ ممتلئ وضاجٌّ بالحياة في المدينة، ومن خلالِ التقاء الفضاءين تشكَّل الفيلم وأوصل رسالته، حيث فضاءُ المدينة الغائب الذي لم يتجاوز الدقائقَ القليلة؛ كشف عن خوفٍ كبير وخشيةٍ من مستجدات الحياة؛ ما تسبَّب باضطراب العائلةِ التي يفترضُ بها التحلي بالحكمةِ والاطمئنان. تقودُ المقارنة بين الفضائين إلى انتصارِ فضاء المدينة وتفضيلهِ على فضاءِ الصحراء، حيثُ الحكمة الناتجة عن التأمُّل وبعد النظرِ اختفت من تصرفاتِ الأبناء؛ ما جعل العداءَ يشتعل بينَ الأخوين، كما تسبَّب الثالث بمقتلِ الأخ الرابعِ وزوجته، وهي أشياء نادرةُ الحدوث في المدينة، التي تتَّسع لكل اختلافٍ ومفارقة.