من الظمأ إلى الغيمة..

“قراءة تتبعية للرحلة النقدية في الأحساء”.

منذ بدايات النهضة الأدبية الحديثة، ظلت الأحساء حاضنةً للشعر ومهدًا لولادات لغوية متجددة، لكنها في الوقت ذاته عاشت فجوةً نقديةً بين النصوص المتكاثرة والقراءات القادرة على تفكيكها. كانت القصيدة الأحسائية تتكلم بصوتٍ عالٍ، فيما كان النقد يهمس مترددًا، غير أن المشهد لم يخلُ من محاولات جادة لتأسيس وعيٍ نقديٍّ محليٍّ يقرأ التجربة قراءة فاحصة لا انطباعية. ولعلّ عادل الرمل في كتابه «ظمأ اليراعة» الصادر عام 1415هـ كان من أوائل من خاضوا تجربة نقدية مطبوعة جادة تُعنى بقراءة النصوص الشعرية قراءة تحليلية فاحصة. هذا الكتاب، الذي وصفه الدكتور عبدالهادي الفضلي بأنه “أول دراسة أدبية على مستوى بيّنٍ في التزام منهج البحث الأدبي”، مثّل خطوة نوعية لا لأنها كانت الأولى، بل لأنها أعلنت أن النقد الأحسائي قادر على أن يكون نصًا موازيًا للنص الشعري. كانت تلك التجربة بمثابة انتقالٍ من التذوق إلى التحليل، ومن الانفعال إلى التأمل، ومن الشغف إلى الوعي. وخلال العقود الأخيرة، شهدت الأحساء بروز مجموعة من الأصوات النقدية والإبداعية التي حاولت تأمل التجربة الشعرية المحلية ورصد تحوّلاتها. من أبرز هذه الإسهامات ما قدّمه يحيى العبداللطيف في كتابه «جاسم الصحيح بين الشاعر والأسطورة – دراسة في الشعر المناسباتي» (1432هـ)، وجاسم المشرف في كتابه «انزياح الدهشة – دراسة نقدية في ديوان “وألنا له القصيد” للشاعر جاسم الصحيح» (1437هـ)، وحسين الملاك في دراسته «التناص القرآني في شعر جاسم الصحيح» (1440هـ). كما أصدر الدكتور ناصر النزر عملين نقديين رسّخ بهما حضوره في المشهد الأدبي الأحسائي: «النصوص من الداخل» (1442هـ) وهو دراسة تحليلية مقارنة في الشعر الديني، و*«غيمة تحت المطر»* (1446هـ) الذي واصل فيه المنهج التأملي في قراءة النصوص، فغدا من أبرز من حافظوا على الوعي المنهجي في النقد المحلي. وفي السياق نفسه، ظهرت أعمال وبحوث أخرى أسهمت في إثراء الحركة الأدبية والنقدية في الأحساء، منها: •«الشيخ أحمد بن علي آل مبارك رائد الأدب الأحسائي الحديث – حياته وأدبه» (1423هـ)، وهو عمل توثيقي مهم أرّخ لبدايات النهضة الأدبية الحديثة في الأحساء. •«السيرة الشعرية لغازي القصيبي بين الرؤية والأداء» للدكتور محمد الدوغان، وهو دراسة تحليلية تتناول البنية الجمالية والفكرية في تجربة القصيبي. •كتابا «شعراء قادمون من واحة الأحساء» و*«حكاية الينابيع»* للشاعر ناجي الحرز، وفيهما رصد لتجارب شعرية محلية وقراءات في مساراتها الفنية. •«الأحساء: أدبها وأدباؤها المعاصرون» للأديب عبدالله الشباط، الذي مثّل مرجعًا توثيقيًا مهمًا في تتبّع سِيَر الأدباء والمبدعين الأحسائيين. •دراسة «الأخوانيات في الشعر الأحسائي» للدكتور محمد الملا، التي تناولت ملامح التواصل الإنساني والاجتماعي في النتاج الشعري المحلي. •«الظواهر الأسلوبية في شعر عبدالله الخضير» للدكتورة إلهام الغنام، وهو بحث لغوي نقدي مطبوع يرصد الخصائص الفنية في لغة الخضير الشعرية. •«قراءات نقدية في ديوان هذا قدري» للشاعر عبدالله الخضير، وهو عمل جماعي شارك فيه عدد من النقاد، ويمثل نموذجًا للتفاعل النقدي مع التجارب الشعرية الحديثة. •إصدار ملتقى ابن المقرب الأدبي «أولئك المقرَّبيون» (1442هـ)، الذي ضم قراءات نقدية متنوّعة في تجارب شعراء الأحساء. •كتاب «كلمات مائية» للشاعر محمد العلي الهجري، الذي جمعه وحرّره محمد الشقّاق، وهو عمل نقدي متنوّع يجمع بين الحس الإبداعي والرؤية النقدية الواعية. •كتاب «الحجر والظلال» للناقد محمد الحرز، الذي تجاوز القراءة الانطباعية إلى التأمل الفلسفي والجمالي في بنية النص الشعري. * «الشعر الحديث في الأحساء (1301–1400هـ)*» للدكتور خالد بن سعود الحليبي (نادي المنطقة الشرقية الأدبي، 2003م)، وهو دراسة تأريخية تحليلية تتبّعت مسار الشعر الأحسائي خلال قرنٍ كامل، موثّقةً تحوّلاته الأسلوبية والفكرية، وممثّلةً أحد أهم المراجع النقدية التي أرّخت للحركة الشعرية في واحة الأحساء. • كتاب «شيخ أدباء الأحساء بين الفرض والرفض – قراءة نقدية في واقع الألقاب الأدبية-» للناقد عبدالله الملحم، الذي ناقش فيه ظاهرة الألقاب الأدبية في الوسط الثقافي الأحسائي قراءةً نقديةً اجتماعيةً تكشف التوتر بين الاعتراف والإقصاء في المشهد المحلي ولم يكن الشعر الأحسائي بعيدًا عن اهتمام النقاد الكبار في المملكة؛ فقد قال الدكتور غازي القصيبي عن ناجي الحرز إنه شاعر “قصائده تحمل طعم النخيل وأشذاء الأرض”، وعن جاسم الصحيح إنه “صاروخٌ شعريٌّ قادم”، وهما شهادتان تختزلان نظرة مبكرة إلى حيوية التجربة الشعرية الأحسائية وامتدادها الإبداعي بين الأصالة والتجديد. وفي السياق نفسه، ظهرت أعمال نقدية وبحثية أخرى أسهمت في إثراء الحراك الأدبي، من بينها رسالة الماجستير للشاعر علي النحوي بعنوان «صورة المرأة في الشعر الأحسائي»، التي تناولت تمثّلات الأنثى ودلالاتها الجمالية والاجتماعية في الشعر المحلي، ودراسة الدكتور عبدالرؤوف العبداللطيف «الانزياح التركيبي في شعر محمود الحليبي: ديوان (تقولين) أنموذجًا» ،ودراسة يوسف بوقرين «القيثار الذي عشقته الشمس» التي تناولت تجربة الشاعر ناجي الحرز في بعدها الإنساني والإبداعي، إضافةً إلى دراسة جابر الخلف «تمرية الينابيع»، ودراسته المطوّلة «نثارة اللهب» في تجربة جاسم الصحيح، وكلها تمثل لبناتٍ أساسية في تشييد الوعي النقدي الأحسائي. وإلى جانب هذه الجهود، أسهم عدد من الكتّاب والنقاد الأحسائيين في إثراء المشهد النقدي عبر الصحف والمجلات، منهم من تناول الشعر بمنظار تأملي كـمحمد العلي الهجري والدكتور عبدالله شباط والدكتور محمد الدوغان وناجي الحرز وخليل الفزيع ومحمد الحرز وجابر الخلف ومنهم من اقترب من التجربة قراءةً وتحليلًا كـعلي طاهر وجاسم الصحيح وجاسم المشرف وأحمد اللويم وباسم العيثان ومحمد الفوز وعبدالوهاب أبوزيد، كما ظهرت أقلام شابة مثل يحيى العبداللطيف وهاني الحسن وعلي المحيسن وحسين الملاك وعبدالله المعيبد ويونس البدر وعبدالله العطية وعدنان المناوس ونورة النمر. لتتكوّن بذلك فسيفساء نقدية تمتدّ من الرؤية الشعرية إلى المقالة الثقافية، غير أنّ معظم هذه القراءات ظلّ مبعثرًا وغير مجموعٍ في مؤلفات نقدية مستقلة، وهو ما جعل المشهد النقدي الأحسائي — رغم غناه بالأسماء — يتّسم بالتناثر لا بالتراكم، وبالمبادرات الفردية أكثر من المشاريع المؤسسية. من ظمأ اليراعة إلى غيمة تحت المطر تمتدّ رحلة النقد الأحسائي، رحلةٌ لم تبدأ من فراغ ولن تنتهي بالاكتفاء. لقد رأى محمد العلي الهجري في اللغة ماءَ النقد، وكتب عادل الرمل بظمأ اليراعة باحثًا عن نبع المعنى، حتى جاء ناصر النزر ليحوّل ذلك الماء وذلك الظمأ إلى غيمةٍ تُنبت المعنى من جديد، ومع ذلك تبقى الساحة الأحسائية بحاجة لتعزيز القراءة النقدية ليحظى النص الشعري بمكانته التحليلية، وتتحول الغيمة إلى مطر نقدي دائم.