حرفة الحفر على الخشب.. أنامل تنحت الجمال..
مبادرات وزارة الثقافة وهيئة التراث أعادتها إلى الحياة.
حين تتردّد في أرجاء المعارض والأسواق التراثية عبارة الاحتفاء بعام الحِرَف اليدوية 2025، يطلّ فنّ الحفر على الخشب بوصفه أحد أعمق الفنون التي مزجت بين مهارة الصانع وذاكرة المكان. حرفةٌ تتجاوز حدود الزخرفة إلى فعلٍ يُعيد تشكيل المادة بروحٍ إنسانية صبورة، تُحوِّل الخشب الجامد إلى نصّ بصريّ يروي تاريخ البيوت والأبواب والصناديق والمآذن. لقد ظلّ هذا الفن شاهدًا على قدرة الإنسان في الجزيرة العربية على استنطاق الخامات الطبيعية وتحويلها إلى رموز جمالية تعبّر عن بيئته وذائقته، لتغدو كل قطعة خشبية شاهدةً على حوارٍ بين اليد والفكرة، بين الجمال والمادة، بين الماضي وروح الحاضر. جذور قديمة عرف الإنسان الحفر على الخشب منذ العصور القديمة، حين اتخذ منه وسيلة لتزيين أدواته اليومية، ولترميز معتقداته وأفكاره على الأبواب والصناديق والتماثيل. وقد وجدت هذه الحرفة طريقها إلى الجزيرة العربية عبر طرق التجارة والحج، لتزدهر في البيئات التي يتوافر فيها الخشب، كالمدن الساحلية والمناطق الجبلية في جنوب وغرب المملكة. ومع دخول الإسلام، تحوّل الحفر على الخشب من فن زخرفي دنيوي إلى فن روحي، إذ زخرفت به المنابر والأبواب والمصاحف، وحُفرت عليه الآيات القرآنية والزخارف النباتية والهندسية التي تعكس ذائقة فنية عالية. في مكة والمدينة وجدة، تزيّنت الأبواب والنوافذ بزخارف خشبية محفورة بإتقان، بعضها ما يزال قائمًا حتى اليوم شاهدًا على عبقرية الحرفيين الذين جمعوا بين الحس الجمالي والمهارة اليدوية، فكانت الأعمال الخشبية جزءًا من هوية العمارة التقليدية في الحجاز والجنوب والوسطى، ودليلًا على تفاعل الإنسان السعودي مع البيئة وموارده الطبيعية. أدوات الحفر وأسراره يتطلب الحفر التقليدي على الخشب مجموعة من الأدوات الدقيقة، ويبدأ الحرفي بتحديد نوع الخشب المناسب، وغالبًا ما يُستخدم خشب السدر والأثل والعرعر والسمُر والزان، إلى جانب أخشاب الساج المستورد من الهند عبر الموانئ الشرقية، لما تمتاز به من متانة وسهولة في التشكيل. ثم تأتي مرحلة تجهيز السطح وصقله، ليصبح مهيّأ لاستقبال النقش. تُستخدم أزاميل متعددة الأحجام، وسكاكين دقيقة، ومطارق صغيرة، وأحيانًا أدوات معدنية محلية الصنع طورها الحرفيون بأنفسهم وفقًا لطبيعة العمل. ويمتاز الحفر السعودي بخصوصيته التي تمزج بين المهارة اليدوية الصافية والبصيرة الفنية المرهفة، فهو فنّ يقوم على تآلف اليد والعين أكثر من اعتماده على الأدوات الميكانيكية. إذ تبقى اللمسة البشرية هي جوهر الإبداع، تمنح الخشب روحه، وتستخرج من مادته الصلبة نعومة التعبير وجمال الخطوط. فالحرفي لا يتعامل مع الخشب بوصفه مادة جامدة، بل ككائن حيّ يتجاوب مع الإزميل والمطرقة، يبوح بما تختزنه طبقاته من حكايات الزمن والطبيعة. وتُعد الدقة في التنفيذ عنوان الحرفي المتمكن، إذ يقضي أيامًا وربما أسابيع في زخرفة لوح واحد، يتعامل معه كما يتعامل الرسام مع لوحته الأولى؛ بحذرٍ وإيمانٍ بأن كل ضربة إزميل تضيف سطرًا جديدًا في كتاب الجمال. أنماط فنية متوارثة تتنوع مدارس الحفر على الخشب في المملكة تنوّعًا يعكس غنى البيئات الجغرافية والثقافية التي تمتد من الحجاز إلى عسير ومن نجد إلى الشرقية. ففي منطقة الحجاز، يتجلى الطابع الإسلامي العريق في الزخارف الهندسية والنباتية التي تزيّن الأبواب والنوافذ والمنابر والمشربيات في البيوت التاريخية بمكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة القديمة، حيث تُنفَّذ النقوش غالبًا بأسلوب الحفر الغائر أو البارز الناعم، مستخدمة الخشب المحلي كالعرعر والمانجروف، وهي ذات الأساليب التي حفظت للعمارة الحجازية تفرّدها الجمالي. أما في مناطق عسير ونجران وجازان، فتغلب الألوان الزاهية على النقوش، حيث يُدمج الرسم مع الحفر في تقليد فني يُعرف محليًا باسم الزخرفة العسيرية، وهو امتداد جمالي لأسلوب القط العسيري المسجل في قائمة التراث غير المادي لدى اليونسكو. ويعتمد الحرفيون في الجنوب على الأخشاب الصلبة المستخرجة من أشجار العرعر والطلح، لتصميم النوافذ والأبواب والصناديق الملوّنة التي تُستخدم في البيوت الجبلية القديمة. وفي المنطقة الشرقية، التي طالما كانت بوابة بحرية للتجارة مع الهند وشرق أفريقيا، تأثر النقش الخشبي بالزخارف البحرية ورموز البحر؛ فبرزت النقوش المستوحاة من الأمواج والمحار وأشرعة السفن التقليدية، وتُنفَّذ غالبًا على أدوات السفن وصناديق الغوص وأبواب البيوت الساحلية. أما الأسلوب النجدي، فيتسم بالبساطة والدقة في الخطوط المستقيمة والحفر الغائر المنتظم، ويُستخدم لتزيين صناديق العروس التقليدية “المبيت” وصواني القهوة وأثاث المجالس. وبهذا التنوّع الإبداعي، يمكن القول إن الحفر على الخشب في المملكة يشكّل فسيفساء فنية تعكس تعدّد البيئات المحلية وتكاملها ضمن نسيج الهوية السعودية الواحدة. التحديات وجهود الإحياء رغم جمال الحرفة وعمقها، واجهت صناعة الحفر على الخشب تحديات كبيرة مع دخول الأدوات الآلية والمنتجات الصناعية المستوردة، ما قلّل من الإقبال على المصنوعات اليدوية. كما أن ندرة الأخشاب المحلية وارتفاع أسعارها شكّل عائقًا أمام استمرار الورش الصغيرة. ومع ذلك، لم تختفِ الحرفة، بل وجدت طريقها إلى الإحياء من خلال مبادرات وزارة الثقافة وهيئة التراث التي تسعى إلى دعم الحرف اليدوية عبر التدريب والمعارض والمهرجانات. وفي الوقت الراهن، تنتشر الورش المتخصصة في الحفر على الخشب في مدن المملكة الكبرى مثل الرياض وجدة والدمام وأبها، وتعمل بإشراف الحرفيين السعوديين الشباب الذين تلقوا تدريبًا في برامج معهد ورث وهيئة التراث، وتجمع هذه الورش بين المهارة اليدوية التقليدية والتقنيات الحديثة كالليزر والنحت ثلاثي الأبعاد، مع الحفاظ على روح الصناعة اليدوية التي تمنح كل قطعة فرادتها وهويتها. تراث يتجدد الحفر على الخشب ليس مجرد ماضٍ جميل يُروى، بل هو ممارسة حية تتطور في ظل الرؤية الثقافية الجديدة للمملكة. فكما تحتفي رؤية 2030 بالتراث كجزء من التنمية المستدامة، تتعامل مع الحرف اليدوية باعتبارها موردًا اقتصاديًا ومعرفيًا في آنٍ واحد. ومن هنا يأتي الاهتمام بإحياء حرفة الحفر على الخشب، ليس بوصفها مهنة تقليدية فحسب، بل بوصفها لغة فنية تعبّر عن هوية سعودية متجددة، لا سيما وأن هذا الفن يسهم في تنشيط الاقتصاد الحرفي المحلي، إذ تُعد المنتجات الخشبية المحفورة من الهدايا المفضلة للسياح والزوار، خاصة في المناطق التاريخية مثل جدة التاريخية والطائف وأبها، لتظل أنامل الحرفيين السعوديين ماضية في نحت الجمال على الخشب، تُعيد عبر النقوش والزخارف رسم ذاكرة المكان، شاهدة على أن الأصالة حتى لا تندثر.