«أصل الأنواع» للروائي أحمد عبداللطيف..
رواية التحوّل الجسدي بوصفه مفتاحًا لقراءة انهيار المدينة!
تقدّم رواية أصل الأنواع للروائي والمترجم المصري أحمد عبد اللطيف نموذجًا سرديًا يزاوج بين الواقعي والغرائبي لتفكيك علاقة الفرد بالمدينة، وتحديدًا في لحظات الانهيار الاجتماعي والسياسي. تستثمر الرواية التحوّل الجسدي كأداة سردية مركزية، بحيث يصبح الجسد نقطة الدخول إلى عالم مضطرب تُعاد فيه صياغة الهوية، وتنقلب فيه الحدود بين الحياة والموت، وتتصدّع المنظومة الأخلاقية والسياسية التي تحكم العلاقات الإنسانية. الجسد كبداية للانهيار السردي تنطلق الرواية من حادثة تبدو بسيطة في ظاهرها: اكتشاف رامي، بطل الرواية، اختفاء شعر رأسه فجأة. غير أن هذا الحدث يمثّل الشرارة التي تكشف عن طبقات أعمق داخل النص. التحوّل الجسدي هنا ليس حدثًا معزولًا، بل مقدّمة لاضطراب شامل يطال الأفراد والمدينة معًا. يصبح الجسد في الرواية مختبرًا للتحوّل؛ تختفي الأصابع، تذبل الأظافر، تتقشّر الهويات الموروثة، وتظهر كائنات جديدة بخصائص بدائية. هذه التحولات لا تقدَّم كظواهر بيولوجية، بل بوصفها مؤشرات اجتماعية وسياسية تؤكد هشاشة الفرد داخل نظام لا يستوعب ضعفه ولا يعترف بتفككه. المدينة بوصفها كائنًا حيًا يُلاحظ أن الرواية لا تتعامل مع المدينة كخلفية للأحداث، بل ككيان مستقل يتغيّر ويتحوّل مثل البشر تمامًا. الشوارع، والمباني، والميكروفونات، وشجر عيد الميلاد المنتشر في كل مكان، كلها عناصر تتفاعل مع السرد وتكتسب دلالات رمزية. تُظهِر المدينة حالتين متوازيتين: – حالة موت مستمر تعبّر عنها الجثامين التي تمشي في الشوارع والأكفان التي ترتديها الشخصيات العائدة للحياة. – وحالة حياة فوضوية تتجسد في الكائنات ذات الأصابع الطويلة والشعر الكثيف. بهذه الثنائية، تتيح الرواية قراءة اجتماعية لعلاقة السلطة بالجسد. فالمؤسسات-مثل مكبرات الصوت التي تعلن وفاة رامي-تمارس دورها التقليدي في إنتاج «رواية السلطة»، حتى عندما تتناقض مع ما يشاهده الناس بأعينهم. وتبعث الرواية بذلك تساؤلًا حول كيفية صناعة الحقيقة، ومن له الحق في تحديدها. بنية الرواية: تشظّي زمني ومكاني مقصود تتبنى الرواية بناءً مفتوحًا يرفض الشكل الخطي التقليدي. المشاهد تتداخل، والتحولات تحدث فجأة، وظهور الشخصيات يفتقد أحيانًا إلى التمهيد. هذا التفكك البنائي لا يعكس عجزًا سرديًا، بل هو خيار واعٍ يعزز طبيعة العالم المأزوم الذي تصوره الرواية. إن الاضطراب الزمني والمكاني يعكس الاضطراب الداخلي للشخصيات، ويحوّل القراءة إلى تجربة تتطلب من القارئ إعادة ترتيب الأحداث، والتأمل في الصلة بين التحول الفردي والجمعي. الشخصيات: طبقات نفسيّة واجتماعية تُبنى الشخصيات على مستويات متشابكة، بحيث لا تكفي قراءة أحدها بمعزل عن الأخرى. – رامي يمثل الفرد الذي يواجه اختفاء هويته المادية، وما يترتب عليه من تصدّع في علاقاته العاطفية وموقعه في المجتمع. – مريم ونيفين تمثلان صورتين مختلفتين للأنوثة، الأولى أكثر قدرة على اتخاذ القرار ولو على حساب نفسها، والثانية أكثر هشاشة لكنها تحمل في حضورها دلالة على الأصل الأول لعاطفة رامي ومخياله العاطفي. – فاتن تؤدي دور «شاهدة المدينة»، فهي الشخصية التي تلتقط حدث تصفيق الموتى، لتربط بين التحوّل الخاص والتحوّل الجمعي. – بتشان ويحيى الحافي يقدمان بعدًا اجتماعيًا مركبًا؛ الأول مخبر سابق يحمل تناقضات المجتمع الشعبي، والثاني نجم كرة سابق يفقد أصابعه ولغته تدريجيًا، فيتحول إلى مثال على التآكل التدريجي للهوية. هذا التنوع في الخلفيات والطبقات الاجتماعية يجعل الرواية قادرة على تقديم صورة واسعة للمجتمع المصري في لحظة عدم يقين، من الأعلى إلى الأسفل، ومن الرسمي إلى الهامشي. الرمزية: الموت والعودة بوصفهما فعلًا سياسيًا لا تتعامل الرواية مع مشاهد الموتى الذين يعودون للحياة كفانتازيا معزولة. بل تُوظَّف هذه المشاهد لإعادة النظر في معنى الحياة نفسها داخل مجتمع متوتر. العودة من الموت هنا ليست عودة كاملة، بل حالة وسطية تكشف عن انتقال المجتمع من اليقين إلى الالتباس. الأموات يتحركون، لكنهم غائبون عن الفعل؛ يصفقون لفاتن، يظهرون في الشوارع، لكنهم لا يقودون الأحداث. يظل فعل الحياة الحقيقي في يد الأحياء الذين يبحثون عن معنى وسط هذا الخراب. * خطاب السلطة: ثبات الشكل وانهيار المضمون أحد أبرز مشاهد الرواية هو إعلان وفاة رامي عبر مكبرات الصوت رغم مشاهدته حيًا. هذا التناقض يرسخ فكرة أن السلطة تستمر في أداء أدوارها القديمة حتى بعد أن يصبح العالم غير مؤهل لاستقبالها. في هذا المشهد، لا يستخدم الكاتب الخطابة المباشرة لانتقاد المؤسسة؛ بل يوظّف مفارقة سردية تُظهر أن الحقيقة تُصنع وتُذاع، لا تُنقل كما هي. * الفانتازيا بوصفها أداة نقد اجتماعي على الرغم من الطبيعة الغرائبية لأحداث الرواية، إلا أن الفانتازيا ليست هدفًا بحد ذاتها، بل وسيلة لتضخيم ما هو قائم في الواقع. تساقط الأعضاء الجسدية، اختفاء الأصابع، تحوّل الرجال إلى كائنات بدائية، ليست سوى صور مكثفة للتهديدات التي يتعرض لها الفرد في مجتمعات مضطربة: فقدان العمل، التشوهات النفسية، تدهور العلاقات، وسلطة سياسية تفرض سرديتها رغم تناقضها مع التجربة اليومية للمواطنين. * النهاية: إمكانات التأويل المفتوح يختتم الكاتب روايته بمشهد ظهور رامي بصحبة مريم تحت ضوء أزرق غريب، مكتمل الجسد، يمشي بهدوء وكأنه يعود من عالم آخر. تتيح هذه النهاية قراءات متعددة: – هل هي نهاية خلاصية تشير إلى إمكانية البعث؟ – أم أنها إعادة إنتاج لسردية زائفة تصنعها مخيلة المدينة المتوترة؟ – أم أن الكاتب يقترح أن التحول النهائي للفرد هو إدراكه لانكسار العالم دون مقاومة؟ ترك النهاية مفتوحة يعزز الطابع الرمزي للرواية، ويُبقي سؤالها الأساسي معلّقًا: ما الذي يتغير أولًا؟ الجسد أم المدينة أم الحقيقة ذاتها؟