في رواية عقيل محسن العنزي (بدوي في اسكتلندا) ..
استلهام السيرة تتقاطع فيها رحلة الذات مع مسيرة الوطن.
تأتي هذه الرواية في سياق الإنتاج الأدبي الذي ينسجم مع طبيعة المرحلة التي تمربها المملكة العربية السعودية في تحقيق طموحاتها الحضارية وفق الرؤية الاستراتيجية (2030) حيث العمل على تأصيل الجذور التي انبثق منها هذ الطموح الوطني إلى التقدم نحو إنجاز التحول الحاسم في اتجاه التفوق العلمي والتقني، واللحاق بركب الأمم المتقدمة في مختلف المجالات ، فتنشيء سرديّتها الخاصة متكئة على النهج السيري الذي يتجاوز الذات المفردة ليشكل النموذج الجمعي التي تمثله رحلة الذات عبر مراحل العمر ، كما يتبدى في الإرهاصة التي قدم بها الكاتب لروايته إذ يقول “ رواية بدوي في اسكتلندا ليس مجرد حكاية شخصية ولد في البادية و عاش حياة القرية وتعامل مع التقنية و الحضارة ؛ بل هي مرآة لمسيرة وطن آمن بقدرات أبنائه واستثمر في الإنسان قبل كل شيء” نهج سار عليه كتاب الرواية في هذه المرحلة التي تشهد تحوّلاً حضاريّاً جذريّاً ، فمن الطبيعي أن تكون هناك مراجعة عبر التجربة الذاتية التي تتقاطع مع هذا التحول في مسيرة الوطن ؛ ولعلي لا أتنكّب الصواب إذا أومأت إلى أن النَّفس الذاتي الخاص يسود هذا العمل مشدوداً إلى معطيات التاريخ الحضاري و الثقافي في مسيرة الوطن ؛ فليس من قبيل الصدفة أن يتطابق اسم البطل عقيل مع اسم المؤلف وأن يتعانق الحس الغنائي مع السياق السردي، وأن تبدو ملامح ذلك في لغة السرد ، وهي تحمل ملامح الذات في توهُّجها الوجداني وحرارتها العاطفيّة ومتنها البلاغي ، ونحن نعرف عبر مراجعات الباحثين للرواية العربية الدور الذي نهضت به الرواية السيريّة في بلورة ملامح الرواية العربية منذ نشأتها سواء في الأدب السعودي بخاصة ، كما تجلّى ذلك بوضوح لدى الدكتور غازي القصيبي في روايته التي أسس بها لمسيرته الروائية (شقّة الحرية) التي استلهم فيها تجربته الدراسية دون أن يقرّ بأنها جزء من مسيرة حياته وأصر على كونها عملا روائياً فحسب ، وهو الذي عرف شاعراً مؤصّلاً كما بدا روائيّاً مجدّدا في سلسلة أعماله الروائية التي شكّلت مرحلة جديدة في تاريخ الرواية السعودية كما تجلّت في أعمال الرواد ؛ وها نحن نبصر بعيني المتابعة كيف تبدّت مرحلة ثالثة من مراحل الرواية السيرية العربية لدى الكتّاب الروايين المعاصرين ، ومنهم كاتب هذه الرواية التي عاد فيها إلى المراحل الأولى من مراحل الحياة الخاصة بالمجتمع العربي في المملكة العربية السعودية ، ولم يصرح بأنها سيرة ذاتية ؛ ولكن جاءت المؤشّرات الصريحة إلى وقائع حياته إلى أنها سيرة ذاتية كتبت بصيغة روائيّة . لم تكن النزعة الوصفية التي رافقت السرد في إيقاعاته المتباينة في هذه الرواية إلّا انسجاماً مع طبيعة الرؤية الكاشفة؛ فهي ذات عدسة لاقطة لملامح المجتمع في أبعاده الاقتصادية و الثقافية و مجاهداته وقيمه وثقافته التي يتبدّى فيها البعد الإنساني الأصيل، و التضامن الاجتماعي و الوفاء لأخلاقياته المتوارثة في أشدِّ مراحل الصراع مع الظروف الطبيعيّة و المناخية عبر الصحراء الممتدة وديدن الارتحال بحثاً عن الماء و الغذاء واللقاء الحميم بين العجوز (صبرة الحلتيت) في صومعتها المتواضعة وما يحيط بها من ملامح الشطف و البؤس و(محسن اللوبيان) و ماتبدى من خلال الحوار من ملامح الذكاء الفطري لدى كليهما فقد تعارفا على الرغم من بعد الشّقة ، وما اسفر عنه هذا اللقاء من سلوك تتبدّى فيه شيم الكرم و النجدة و التضامن و التعاطف والعلاقات الأسريّة والانسجام مع الطبيعة الصحراويّة في صفائها ورحابتها واتساعها ، وهنا يبدو الفضاء المكاني في الرواية بخصائصه التي تسهم في بلورة شخصيات ساكنيه وعلاقاتهم الأسرية ، ولكن الصورة لم تكن على وتيرة واحدة ؛ فقد كان للشّح في عطاء ذلك الفضاء الصحراوي آثاره السلبيّة على السلوك ؛ إذ يصور الكاتب المشهد الدموي الذي أسفر عنه الصراع على شربة الماء ؛ فالحياة فيها – كما يقول الكاتب على لسان السارد - ليست مجرد سكون وهدوء ولكنها غابة من المتناقضات . وعبر المشهد الخامس من المشاهد التي عنون بها الكاتب فصول روايته يقدم لنا تجربة إنسانية شاهدة على طبيعة الدور الاجتماعي التي ينهض به كل فرد من أفراد الأسرة في تناغم فريد ، وما يتعرّضون له من مخاطر في أداء واجباتهم وعن الألفة التي تنعقد بين البشر وكائناتهم الأليفة (الكلب سمحان ) والدور الذي نهض به في البحث عن (زهوة) التي كانت تقوم برعي الإبل وكيف اختبأت في ظل الناقة التي حنَت عليها وحمتها من المطر و البرد ،هذا التواصل الفريد بين الكائنات من السمات المميزة للحياة في كَنف الصحراء ،وكيف يتعانق الفرح و الموت في ظل هذه الظروف القاسية. وتتبدّى ملكة الكاتب الاستشرافيّة وحسّه التاريخي في اقتناص اللحظة التي يوميء بها إلى التقاطع مع اللحظة التاريخيّة الفاصلة التي تتجلّى في الحوار بين عقيل وأبيه محسن لحظة الوقوف على مقربة من أنابيب التابلاين و بداية الالتحاق بشركة (أرامكو) من قبل الشباب للعمل في الدمام حيث تنبثق من صميم البيئة الوطنية التي تحفل بالخير وتبشّر بالمستقبل الواعد ، وقد سبق أن ألمح إليها في لقاء محسن السابق مع العجوز صبرة التي إشارت إلى التحاق ابنها بشركة البترول (أرامكو) للعمل . ويصف الكاتب على لسان السارد رحلة الانتقال من البادية إلى حائل، وإلى الدراسة ، ومادار من حوارات حول التعليم وما حل بالزاهدين فيه والانتقال إلى الوهيبية، و التفاصيل و الحوارات التي تلخص لنا مشهداً مهمّاً من تاريخ المرحلة بحس تاريخي توثيقي مُرهف ، وما حفل به تاريخ التعليم من أخطاء تربويّة فيما يتعلق بالعقاب واستخدام أساليب العنف، كما تجلّت في (الفلكة) عقاباً على عدم امتلاك القلم نموذجاً لأتفه الأسباب . ويحلّق الشاعر في سماء المجاز وأجواء الشعر في عناوينه لبعض المشاهد على نحو ما نرى في المشهد التاسع (حين تبتسم السنابل و تتشكّل البيادر) حيث يغوص الكاتب في أغوار التفاصيل المتعلقة بخصوصية سيرة عقيل الحياتية في التقاط مختلف جوانب المشهد في حياة الأسرة التي اختارت الزراعة مصدراً للرزق ، حيث تضامنت العائلة محسن وفاطمة وأولادهم في هذا المضمار بما يلخّص المشهد العام لحياة شريحة اجتماعية بدأت تنهض بدورها في صناعة الحياة، والمُثُل التي تنمو معها عبر منحىً سيريٍّ واضح يتمثّل في بناء علاقة عقيل مع سالم ، وما كان ينهض يه أبناء جيله في هذه المرحلة ، وما شاب تلك المرحلة من نوازع عدوانيّة تتمثل في التنمر وهي من نزعات بني البشر المألوفة ، ومن الملامح السيريّة ذكر الأماكن على التعيين و التخصيص كذكره لجبال (ظرف و شابكة) والصراع مع حيوانات البيئة ومخاطرها ويتقرّى الكاتب ملامح المرحلة حين يتحدث السارد على لسان محسن عن ولديه في المنطقة الشرقية وانتسابهم إلى الحرس الوطني واشتياقه لرؤيتهم وعزمه السفر إليهم ، ووصفه للمدن التي مرّ بها في سفره مع ولده وتقاليد حفلات الزفاف وخصوصية المشاعر عند فراق الأسرة لابنتها، وهو في هذه المرحلة يعمد إلى الانتقال إلى مسيرة التشكل الثقافي و الانتقال من دائرة المحيط الاجتماعي إلى الانفتاح المعرفي ، حيث ولوج الفضاء الآخر، ومن ثم الانفتاح على العالم عبر التطور والارتقاء من حيّز مكاني إلى آخر ، وفي كل مرحلة تنمو المدارك ويتّسع الوعي ، فإذا ولج رحاب العالم الواسع تفتّحت أمامه عوالم شتّى عبر اقتنائه للمذياع، ومع النمو المعرفي والانتقالات المكانيّة تتّسع دائرة القيم الأخلاقيّة حيث يهدي محسن لرفيق ولده سالم شاتين ليتمكن من السفر. لكن الكاتب لايتوقّف عند رحلة الصعود؛ بل يتابع معركة التحدّي و الصمود في وجه الجهل و الجمود؛ إذ لم تستطع العقليّة التي تربّت على التقاليد وخشيت من طواريء الجديد انحدرت إلى وقف المسيرة ودأبت على الحيلولة دون تخطي الحدود فأحرقت المذياع ، ويمضي الكاتب في استعراض مراحل حياة بطله (عقيل) التي تبدو خيطا مجدولاً في تاريخ نهضة الوطن ومعاناة الصعود إلى قمة الهرم الحضاري ؛ فمن الدراسة المتوسطة إلى العمل ومن (اشبيرية) إلى حائل إلى مكة و الرياض وأرجاء الوطن الرحيب ، ثم إلى مدرسة المعلمين الثانوية؛ ومن طالب المدرسة إلى خطيب الجامع ثم إلى مهنة التعليم و أروقة الصحافة وفضاء الشهرة ، والخروج إلى العالم الواسع الابتعات للدراسة ، و من الدرّاجة إلى السيّارة ومن الراديو إلى التلفزيون ، ومن العزوبيّة إلى الزواج، وخلفيّة المشاهد حياة الأسرة التي توازي حياة المجتمع في تقاطع و تناغم ، ويسفر الكاتب صراحة عن سيرته الذاتية حين يذكر اسم بطله كاملاً فإذا به اسمه شخصياً ، ومن الهم الذاتي الخاص ومعضلاته إلى الهم العام وما تعرض له على يد فئة ضالة في مطلع القرن الهجري ن تلك الحادثة التي تمخضت عن كاتب متميز دون بقلمه مشاعر حبه لوطنه واستنكاره لذلك العدوان الغشوم ،وقد مضى سارده في تنقّله بين وصف للمشاعر الملتهبة بين الفراق و اللقاء والأجواء و الأنحاء ، فالفضاء الروائي يفترش خلفيّة المتن السرديّة من البادية إلى القرية إلى المدينة إلى مطار (هيثرو) وجامعة (أدنبرة) حيث تتّسع فوهة العدسة اللاقطة التي تسترق النظر و السمع إلى المعالم والأشياء والأحياء فيدوّنها بقلم شاعر وخيال أديب وكاميرا صحفي ، تلك الصفة التي لازمته في الجامعة ليكون لسان زملائه الناطق باسمهم المعبِّر عن رؤاهم ، وفي غمرة النجاحات تأتي النكسات فينتقل الأب إلى رحمة الله فيتقاطع الحزن مع الفراح في دراما مأساويّة عبر عنها بلغة بالغة الشفافيّة في أعقاب نجاحات متواصلة دراسيّاً وإعلاميّاً في مغتريه الحافل ، وهنا تتأكّد أهمية الفضاء الرائي الذي استثمره الكاتب بحرفية بالغة ؛ حيث الربط بين تضاريس المكان والأحزان؛ لقد نهضت النقلات المكانيّة في الرواية بالنمو السردي : فكان الانتقال إلى حيّ النسيم بالرياض قفزة جديدة إلى مرحلة أخرى من مراحل نموّ الحدث الروائي و المسيرة الذاتية في السيرة ، وتوالت النجاحات و الإنجازات في الأدب و العمل ، ولم يفارقه حلم الصحراء و الشوق إلى النفود مع (صليفيق ) والتحوّلات الكبرى على مستوى الوطن كغزو العراق وعاصفة الصحراء ،التنوير و التدمير، محطّات كثيرة يتصاعد فيها الإنجاز وتزداد الثقة مُدعّمة بالحقائق والأسماء الأعلام المعروفة يُفصّلها تقديراً حسب ما يقتضي مقام السرد، وتنتهي بخاتمة تحمل خلاصة تستشرف الآفاق وتوصي بالحفاظ على مكاسب الذات التي تتعالق مع نجاحات الوطن فتنعقد الأواصر بين النجاحات و التطلعات. ومن المعروف أن سيرة الذاتية تقوم على محور مركزي هو “الأنا”، لكنها ليست أنا متعالية ؛إذ يُعاد تشكيل الماضي من موقع الحاضر، فيصبح الزمن عنصرًا فنيًا وليس مجرد ترتيب وقائع ، يظهرهذا في:الانتقال بين الأزمنة كسر التسلسل الرابط بين لحظات متباعدة عبر المعنى ، ولكن الأحداث في هذه الرواية تبدو متطورة في خط زمني أفقي : و السيرة ليست سجلًا شاملًا، بل اختيارًا واعيًا لوقائع ذات دلالة يقرر الكاتب ما يقوله وما يحجبه، فيبدع سردًا مقصودًا دلالة موجّهة وصورة ذاتية تريد أن تظهر للآخر سيرة نص واقعي بمخيلة فنية ، رحلة تحول نضج وصراع داخلي يُعتبر الصدق الفني أعلى قيمة من الدقة التاريخية الهدف هو بناء معنى، لا مجرد نقل معلومة تتميز لغة السيرة بحرارة الانفعال وحضور المشاعر وتأملات النفس، وهذا ما نلمسه في هذه الرواية اللغة هنا مرآة الوجدان ، ولا تكتب السيرة عن الذات وحدها، بل عن المجتمع كما يتضح في هذا العمل الروائي الذي يقع على التخوم بين السيرة الذاتية والفن الروائي, وهو عمل متميز بوثوقيته ورؤيته ورسالته.