على هذه الأرض بدأ التاريخ..

بلادنا وحضارة تتجاوز 11 ألف سنة.

لم تكن أرض المملكة العربية السعودية يوماً فراغًا في التاريخ، بل كانت مهدًا للإنسان، ومنطلقًا للحضارة، وملتقىً للشعوب منذ آلاف السنين. هنا، في قلب الجزيرة العربية، وعلى رمالها الصامتة، بدأت أولى محاولات الإنسان لصياغة معنى الاستقرار، وتأسيس علاقةٍ واعية مع المكان. لقد أثبتت المكتشفات الأثرية الحديثة أن المملكة العربية السعودية ليست مجرد دولةٍ حديثة العهد، بل أرضٌ تجاوز عمرها الحضاري أحد عشر ألف سنة، بما تحتويه من مواقع ومستوطنات وممالك تركت بصماتها في سجل الإنسانية. من أقصى شمالها في تبوك إلى أعماق الربع الخالي، ومن سواحل الخليج شرقًا إلى جبال الحجاز غربًا، تمتد جذور المملكة في عمق التاريخ، لتؤكد أن الإنسان عاش فيها، وبنى، وتفاعل، وأسهم في تشكيل البنية الأولى للوعي الإنساني والحضاري. مصيون.. مهد الاستقرار الإنساني الأول في عمق الشمال الغربي من المملكة، وتحديدًا في منطقة تبوك، يتجلّى موقع مصيون الأثري بوصفه أقدم المستوطنات المعمارية الموثقة في الجزيرة العربية. أعمال التنقيب التي قادتها هيئة التراث السعودية بالتعاون مع جامعة كانازاوا اليابانية كشفت عن حضارةٍ يعود تاريخها إلى أكثر من عشرة آلاف عام قبل الميلاد، لتكون البداية الموثّقة لأقدم مرحلةٍ من الاستقرار البشري في الجزيرة. الموقع يحوي مساكن حجرية منظمة تُظهر وعيًا هندسيًا مبكرًا، وأدوات حجرية مصقولة، ورؤوس سهام وسكاكين دقيقة الصنع، إضافةً إلى حُليٍّ من الأمازونيت والكوارتز، وأصدافٍ بحريةٍ منقولةٍ من سواحل بعيدة. كلّ ذلك يشير إلى أن سكان مصيون لم يعيشوا في عزلة، بل مارسوا التبادل التجاري والثقافي مع مناطق أخرى، مما يدلّ على وجود شبكة حضارية مبكرة امتدت في شمال الجزيرة. الأهم من ذلك أن دفن الموتى في مصيون تم وفق نظامٍ رمزيٍ منظّم، ما يعكس بدايات الإيمان بالحياة الأخرى، ونشوء فكرة الروح والعقيدة، وهو دليل على تطورٍ فكريٍ وروحيٍ مبكر يضع هذه الحضارة في صدارة تاريخ الإنسان. حضارة المِقَر.. الخيل الأولى والعقل المبدع في جنوب غرب نجد، بالقرب من وادي الدواسر، برزت حضارة أخرى هي حضارة المِقَر، التي تُقدّر بنحو تسعة آلاف سنة قبل الميلاد. هذه الحضارة شكّلت امتدادًا طبيعيًا لخط التطور البشري في الجزيرة، ومرحلة متقدمة في الاستقرار والتنظيم الاجتماعي. في موقع المِقَر تم العثور على تماثيل حجرية ضخمة لأحصنة وجِمالٍ وغزلان، وأدواتٍ استخدمها الإنسان في الزراعة والرعي. ويُعتقد أن سكان المِقَر كانوا من أوائل من روّض الخيل في العالم، مما يجعلها واحدةً من أقدم دلائل ترويض الحيوان في تاريخ البشرية. لم تكن المِقَر مجرد تجمعٍ سكني، بل مجتمعٌ منظمٌ يمتلك حسًّا فنيًا وقدرةً على النحت والتفكير الرمزي. لقد عبّر إنسان المِقَر عن وعيه بالجمال، وعن فهمه للعلاقة بين الإنسان والطبيعة، وترك شواهد على حضارةٍ تُثبت أن الإنسان العربي القديم لم يكن معزولًا عن حركة التمدّن العالمية. العُلا.. سجل الممالك العربية تأتي العُلا كصفحةٍ ناطقة من كتاب التاريخ العربي القديم، حيث قامت فيها ثلاث ممالك كبرى متعاقبة: مملكة دِدان في القرن السابع قبل الميلاد، ثم مملكة لِحيان التي امتدت حتى القرن الثاني قبل الميلاد، وأخيرًا مملكة الأنباط التي بلغت أوجها في القرن الأول قبل الميلاد. كانت العُلا مركزًا تجاريًا وثقافيًا على طريق البخور الذي ربط جنوب الجزيرة بشمالها والشام. النقوش اللحيانية والنبطية التي تنتشر في صخورها تشهد على نشوء الكتابة العربية المبكرة، وعلى ازدهار فنون النحت والعمارة والتنظيم الإداري. أما مدائن صالح (الحِجر) فهي من أروع ما خلفته حضارة الأنباط، حيث شُيّدت المدافن الضخمة المنحوتة في الجبال بدقةٍ هندسية وجمالٍ فني. وقد أدرجتها منظمة اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي بوصفها شاهدًا خالدًا على عبقرية الإنسان العربي القديم. تيماء ودومة الجندل.. مدنُ الملوك والخصب في شمال الجزيرة، تظهر تيماء ودومة الجندل كمحطات حضارية مهمة. ذكرت النصوص البابلية والآشورية تيماء باعتبارها مدينة مزدهرة ذات أسوارٍ ومعابد ومخازن، وقد استقر فيها الملك البابلي نَبونيد في القرن السادس قبل الميلاد، ما جعلها مركزًا للحكم والعبادة والتجارة. أما دومة الجندل فكانت مدينة حصينة ذات قلاعٍ وأسوارٍ حجرية، ومركزًا لتبادل القوافل القادمة من العراق والشام والحجاز. النقوش الآرامية والثمودية والصفوية المكتشفة فيها تُظهر تعدد اللغات والثقافات التي تفاعلت في تلك المنطقة، وتدلّ على انفتاحٍ حضاريٍ مبكر في قلب الصحراء. الفاو.. عاصمة كِندة ومدينة الملوك في الجنوب الأوسط للجزيرة، على تخوم الربع الخالي، قامت مدينة الفاو، التي كانت عاصمة مملكة كِندة منذ القرن الرابع قبل الميلاد وحتى القرن الرابع الميلادي. تُعد الفاو من أقدم المدن العربية التي امتلكت نظامًا عمرانيًا متكاملًا، بشوارع منظمة، ومساكن متعددة الطوابق، ومخازن، وأسواق، ومعابد. النقوش المكتوبة بخط المسند الجنوبي تروي قصص الملوك والتجار والكهنة، وتكشف عن مجتمعٍ منفتحٍ ومزدهرٍ ارتبط بالعالم من حوله عبر طرق التجارة. لقد كانت الفاو جسرًا حضاريًا بين الجنوب والشمال، ومركز إشعاعٍ ثقافيٍ في قلب الجزيرة. دِلمون والشرق العربي القديم في شرق المملكة، على سواحل الخليج العربي، امتدت حضارة دِلمون منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد، واتخذت من البحرين والأحساء مركزًا لها. ذكرتها النصوص السومرية باعتبارها «أرض الطهارة»، ومعبراً لتجارة النحاس والأخشاب والعطور بين بلاد الرافدين والهند. وقد أسهم موقعها في جعلها صلة الوصل بين حضارات الشرق الأدنى القديم. الجزيرة العربية.. مهد الإسلام ونور العالم وحين بزغ فجر الإسلام في مكة المكرمة، انتقلت الجزيرة العربية من محلية التاريخ إلى عالميته. أصبحت هذه الأرض مركز النور، ومصدر الرسالة التي غيّرت وجه الإنسانية، وجعلت من اللغة العربية والوعي الديني والفكري أساسًا لحضارةٍ جديدةٍ امتدت شرقًا وغربًا. في عهد النبي محمد ﷺ والخلفاء الراشدين، ثم في العصور الأموية والعباسية، تحوّلت مدن الجزيرة إلى مراكز علمٍ وثقافةٍ ودعوةٍ، ومنها انطلقت القيم الإسلامية التي جمعت بين الإيمان والعلم والعمل. المملكة الحديثة.. استمرارٌ للتاريخ وعبورٌ نحو المستقبل حين وحّد الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود البلاد عام 1932م، لم يكن يؤسس دولةً جديدة فحسب، بل كان يُعيد إحياء جذورٍ ضاربةٍ في عمق التاريخ. لقد جمع شتات المناطق والمجتمعات في كيانٍ واحدٍ، لتعود الجزيرة العربية إلى مكانتها الطبيعية كمركزٍ حضاريٍ وإنسانيٍ مؤثر. واليوم، عبر رؤية المملكة 2030، تواصل السعودية مشروعها في إحياء تراثها العريق، وتقديمه للعالم بوصفه جزءًا من التاريخ الإنساني المشترك. من مشاريع العُلا ومصيون وتيماء ودومة الجندل والفو، إلى برامج هيئة التراث وهيئة المتاحف وهيئة تنمية العُلا، تتجلّى جهود المملكة في بناء نهضة ثقافية تستند إلى الإرث العميق والهوية الوطنية الأصيلة. إن المملكة لا تنظر إلى التراث على أنه ماضٍ ساكن، بل طاقة حية تعيد صياغة الحاضر وتستشرف المستقبل. ولهذا، أصبحت عبارة «أرض الحضارات» ليست شعارًا بل حقيقةً علمية وثقافية يثبتها كل اكتشافٍ أثريٍّ جديد. تجاوزت المملكة العربية السعودية حدود الجغرافيا والزمن، لتكون سلسلة متصلة من الحضارات التي بدأت منذ أحد عشر ألف سنة ولم تتوقف حتى اليوم. من مصيون والمِقَر إلى العُلا والفاو، ومن دِلمون إلى مكة المكرمة، يظل الإنسان السعودي هو الخيط الذهبي الذي وحّد التاريخ بالهوية. وإذا كانت الأمم تفخر بما تملك من آثارٍ أو معالم، فإن المملكة تفخر بأنها تملك تاريخ الإنسان نفسه، الذي بدأ على أرضها، وواصل مسيرته فيها، ولا يزال يبني فيها الحاضر والمستقبل. إنها السعودية… أرض الحضارات، ومهد الإنسان، وموطن الرسالة، وصوت التاريخ الذي لا يصمت.