ما قبل النفط ..

الحلم الســـــــــــــعودي.

في زمنٍ كانت فيه صحراء المملكة لا يزال الحديث عنها يُروى من الذاكرة، ولم تمسّها بعد عدسات الغرب، حلق طيّار أمريكي يُدعى جوزيف دي ماونتن فوق رمالها بكاميرا لا تبحث عن النفط، بل عن الحقيقة البصرية لبلدٍ كان يتشكل بهدوء. بين عامي 1934 و1935، سجّل دي ماونتن بعدسته صورًا نادرة للحياة اليومية في المملكة قبل أن تُعلن ثروتها النفطية، موثقًا الأسواق الشعبية، والصيادين، والبدو، وملامح المدن الناشئة، في مشاهد باتت اليوم مرآةً نادرة لذاكرة وطن، لم يكن دي ماونتن مستكشفًا تقليديًا، بل شاهِدًا صامتًا بعدسةٍ جريئة، خلّدت المملكة كما لم تُرَ من قبل. هوية الرجل الغامض في ثلاثينيات القرن العشرين، كان جوزيف دي ماونتن شخصية قلّما يعرفها العامة، رغم أن إرثه البصري يشكل إحدى أقدم الشهادات المصوّرة عن المملكة العربية السعودية قبل التحول الكبير. وُلد في الولايات المتحدة مطلع القرن العشرين، وتدرّب في سلاح الجو الأمريكي كطيّار ومسّاح جوي، ضمن جيل من الفنيين الذين امتزجت لديهم مهارات الطيران والملاحة الدقيقة مع حسّ الاكتشاف الجغرافي. وفي عام 1933، منحت المملكة أول امتياز تنقيب عن النفط لشركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا (SoCal)، فأنشأت شركة فرعية تحت اسم كاليفورنيا العربية للزيت القياسي (CASOC). ومع بداية الاستكشافات، كان لابد من إرسال فريق متخصص إلى أراضي المملكة الشاسعة، ليس فقط للتنقيب، بل لفهم الجغرافيا الطبيعية والاجتماعية للمنطقة. وهكذا، ضم الفريق الأول نخبة من الطيارين، والمسّاحين، والجيولوجيين، والمترجمين، ممن كان دي ماونتن أحد أبرزهم. انضم دي ماونتن إلى CASOC أواخر عام 1933، بصفته طيّارًا ومسّاحًا جويًا مكلفًا بتصوير ورسم الخرائط الطبوغرافية للمناطق الشرقية من المملكة، خاصة حول الدمام ورأس تنورة والجبيل. وقد كانت مهمته بالغة الدقة؛ إذ اعتمدت عليها فرق التنقيب لتحديد المواقع المحتملة للنفط، والوصول إليها عبر تضاريس غير مألوفة، بلا طرق واضحة ولا خرائط دقيقة. لكن المهمة التي كُلّف بها سرعان ما تجاوزت الطابع الفني، إذ حمل معه كاميرا فوتوغرافية من طراز Graflex Speed Graphic، ليبدأ في تسجيل كل ما تقع عليه عينه: القرى، الأسواق، القوافل، المدن الساحلية، وحتى الحياة اليومية للبدو. لم يكن مصورًا محترفًا في الأصل، لكنه امتلك عينًا فنية نادرة مكنته من التقاط لحظات عابرة ببساطتها وصدقها، فباتت صوره لاحقًا مرجعًا تاريخيًا لا يُقدّر بثمن. وفي الوقت الذي كان فيه معظم زملائه في الفريق يركزون على التنقيب وقياسات الحقول، كان دي ماونتن يجمع بين الدقة العلمية والبُعد الإنساني، ليخرج لنا بألبوم صوري يعكس بصدق صورة المملكة قبيل ولادة عصر النفط. وكان إلى جانبه في الفريق عدد من الأسماء البارزة، مثل توماس بارغر (الذي أصبح لاحقًا أول رئيس تنفيذي أمريكي لأرامكو)، والجيولوجي ماكس ستينكي، وهو صاحب دور محوري في اكتشاف النفط، والمترجم عبدالله الطريقي الذي أصبح لاحقًا أحد أبرز الأسماء في صناعة النفط السعودية، حيث بات لاحقًا أول وزير للنفط وشخصية رائدة في تأسيس منظمة أوبك (OPEC). ورغم ندرة المعلومات الشخصية عن جوزيف دي ماونتن، فإن الصور والتقارير التي خلّفها تحكي الكثير. فهي تحمل نبرة راصد دقيق لعالم لم يكن فيه شيء مألوفًا لعينيه، لكنه تعامل معه باحترام شديد وفضول صادق، حتى باتت عدسته لاحقًا مرآةً لتلك المرحلة المبكرة من تاريخ المملكة، بكل ما فيها من سكون، وشجاعة، وتحولات على وشك الوقوع. بعثة في الصحراء حين استُدعي دي ماونتن إلى الأراضي السعودية، كانت مهمته تتطلب أكثر من مجرد مهارة في الطيران أو المسح الجغرافي؛ لقد تطلّبت قدرة على التأقلم في أرض لم تُكتشف بعد من الجو. لم يكن أمامه مرجع سابق ولا خطوط مسح مُمهدة، بل كان عليه أن يبدأ من العدم، يعبر الصحاري بعيون الباحث ويعود محمّلًا بملامحها الأولى. وفي قلب هذه البعثة، كان العمل يتم وفق خطط دقيقة لا تخلو من المجازفة. انطلقت رحلاته فجراً، محمولاً على أجنحة الطائرة الخفيفة «Fairchild 71»، والتي جُهّزت خصيصًا بفتحات للرصد وكاميرات جوية بدائية، سمحت له بتصوير الأرض بوضوح لم يكن ممكنًا من سطحها. لم تكن هذه الرحلات مجرد استطلاعات جوية، بل تدريبات متقدمة على البقاء وسط العزلة، حيث إن أدنى خطأ في الملاحة يعني التيه فوق تضاريس بلا ملامح، أو الهبوط الاضطراري وسط الرمال الساخنة. على الأرض، لم يكن دي ماونتن أقل انغماسًا في التفاصيل. كان يسجل الملاحظات بخط يده، يرسم ما لا يمكن تصويره، ويتنقّل بين أفراد البعثة بهدوء أشبه بالراهب. لم يكن معروفًا بكثرة الحديث، لكنه كان دقيقًا في رصد التحولات الصغيرة: تغيّر لون الرمال، نمط الغيوم، إيقاع السير في القوافل، وحتى شكل الأعمدة في الأسواق التي زارها. وقد تمثلت أهمية هذه البعثات في كونها أولى محاولات بناء قاعدة بيانات طوبوغرافية لبلد كان وقتها يملك أكثر من 80٪ من أراضيه غير مُدرجة على خرائط موثقة. المهام التي كُلّف بها امتدت من سواحل الخليج العربي حتى عمق الجزيرة، ومرّت عبر طرق لم تُسلك من قبل إلا على ظهر الجِمال. المواقع التي زارها شملت الهفوف والجبيل ورفحاء والظهران، وامتدت لتشمل مشاهد من المدن والأسواق، والقوافل، وحتى التجمعات القروية والبدوية. كل صورة التُقطت حينها لم تكن مجرد توثيق لمكان، بل سجل بصري لحياة لم تكن تُرى من قبل، لا في الصحف ولا في الأبحاث الغربية. حياة تنبض ضوءًا تشير الصور التي التقطها دي ماونتن إلى إدراك فطري لثقل اللحظة، إذ لم تكن مجرد صور مسحية عابرة، بل تُظهر الحياة الاجتماعية في المملكة في أدق تفاصيلها. في بعض الصور، نرى مجموعة من الأطفال والأشخاص يسيرون أو يجلسون في الشوارع، وفي أخرى، تظهر قافلة من الجمال تعبر الصحراء حيث الرمال الذهبية، كما وثّق الأسواق الشعبية، مثل سوق الهفوف، الذي بدا في صوره كمجتمع مصغّر ينبض بالحيوية، يجمع الباعة والنساء والأطفال في مشهد واحد. كما التقط صورًا نادرة لبدوٍ في خيامهم، ولصيّادي اللؤلؤ على الساحل الشرقي، وهم يُصلحون شباكهم أو يعدّون قواربهم الخشبية قبل الغوص. الصورة في أرشيف دي ماونتن لا تحكي عن حجر أو طوب، بل عن الإنسان السعودي حينذاك، بملامحه الأصلية، وأزيائه البسيطة، وكرامته التي تعكس قوة الصحراء. لم يسعَ لتغريب الصورة أو تجميلها، بل نقلها بصدقٍ، كما هي. ولعل أبلغ ما تكشفه عدسته هو ذلك الشعور العميق بالسكينة، إذ تتوقف اللقطة في لحظة حياة لا تشبه قلق الغرب الاستعماري أو قلق المدينة الصناعية. بل هي لحظة التقاء فطري بين الإنسان العربي ومحيطه البسيط. أعاد دي ماونتن الاعتبار إلى التفاصيل الصغيرة: ارتداد الضوء على الرمال، الغبار المثار من حوافر جمل، تجاعيد وجه شيخ ينتظر الغروب. لم يكن صوته مسموعًا، لكن الصورة تحدثت بدلًا منه بلغة لا تحتاج إلى ترجمة: هذه أرض لها روحها، وشعبها، وإيقاعها الخاص. وفي مجموعته أيضا، يظهر كيف أن المملكة، رغم بساطتها العمرانية حينها، كانت غنية إنسانيًا: ملامح الوجوه، تقاطيع الأيادي، ترتيب السلع على الأرض، كلها تقول إن هنا حضارة تُنسج من ضوء الشمس، وسكون الرمال، وصبر الناس. كانت عدسته ليست نافذة إلى عالم غريب، بل جسراً إنسانياً يربط بين أعين تنظر من بعيد، وأرواح تعيش من الداخل. كنز أرشيفي نادر أرشيف جوزيف دي ماونتن محفوظ اليوم في عدد من المؤسسات الأكاديمية والمتاحف، وعلى رأسها متحف الطيران والفضاء الوطني الأمريكي ومؤسسة سميثسونيان، حيث تتوفر مجموعات ضخمة من صوره وتقاريره المكتوبة. كما تُعرض بعض هذه الصور ضمن منصات رقمية مثل «Wikimedia Commons»، ما يتيح للباحثين والمهتمين تصفحها والرجوع إليها. الصور محفوظة بجودات عالية، وتشمل ألبومات كاملة لرحلاته الجوية ومشاهداته الأرضية، وخرائط جوية تفصيلية، وأحيانًا ملاحظات بخط يده تشير إلى مواقع التصوير أو ملاحظات ثقافية مختصرة. ما يميز هذا الأرشيف ليس فقط كمهندس جغرافي، بل كمؤرّخ بصري لما قبل النفط. وقد بدأت بعض الجامعات الأمريكية في إعادة قراءة أعماله ضمن سياق تاريخ العلاقات السعودية ـ الأمريكية، بوصفه شاهدًا على التحولات الأولى في المملكة من الداخل، ربما لم يخطر ببال دي ماونتن، وهو يحلّق فوق الصحراء بكاميرته الصغيرة، أن عمله سيصبح مرجعًا تاريخيًا يُستعاد بعد قرابة قرن من الزمن. لكنه، من دون أن يدّعي البطولة أو يسعى إلى المجد، ترك أثرًا صامتًا في ذاكرة أرض كانت تتغير ببطء، فيما تلتقط عدسته ملامحها الأولى بصفاءٍ نادر. بصمة في التاريخ لقد وثّق دي ماونتن لحظة ما قبل الانفجار الاقتصادي، حين لم يكن في الأفق سوى الأفق ذاته، وحين كانت الرمال تفترش الطرقات، والبيوت تُبنى من طين، والأسواق تنبض بالتقاليد لا بالنوافذ الزجاجية. كانت صوره بمثابة شهادة ميلاد مرئية لمجتمع يتكوّن على مهل، يحمل داخله إرث آلاف السنين، ويتهيأ لنهضة لم تُرسم بعد. جاء دي ماونتن لا كرحّالة، ولا كدبلوماسي، بل كشاهد عدسة. لم يروِ قصة المملكة من الخارج، بل غاص في تفاصيلها: في صمت البوادي، وازدحام الأسواق، وتعب الملامح، وفخر الناس. هو لم يضع عناوين على صوره، لأنها لم تكن بحاجة إلى عناوين؛ كانت كافية بذاتها، مكتفية بحقيقتها. وحين ننظر اليوم إلى أعماله، لا نراها أرشيفًا فقط، بل نراها سؤالًا بصريًا مفتوحًا: كيف كانت المملكة قبل النفط؟ كيف كانت ملامحها، وسيرتها، وروحها؟، لقد التقط دي ماونتن ـ في لحظةٍ عابرة من عامي 1934 و1935 ـ صورةً دائمة لمكان لم يرد أن ينسى، فخلّد البداية، قبل أن يُكتب العنوان الكبير. ـــــــــــــــــ * مصادر الصور: 1- مؤسسة سميثسونيان، مشروع مركز النسخ (Smithsonian Digital Volunteers: Transcription Center) ــ مجموعة جوزيف دي ماونتن. 2- موقع «Wikimedia Commons» ــ تصنيف: جوزيف دي ماونتن. 3- موقع متحف الطيران والفضاء الوطني (Smithsonian National Air and Space Museum) ـ أرشيف جوزيف دي ماونتن.