أكاذيب الأدب الجميلة.
بعد انقطاعٍ طويل عن الكتابة في الصُّحف، سُئل الروائي الكبير “غابريل غارسيا ماركيز” عن سِرّ عودته إلى الكتابة من جديد، فقال: حتى لا أروي مُذكّرات ينكشف كذبها بعد موتي، كتاباتي في الصُّحف الآن هي يوميّاتي”! وفد أسرّ “ماركيز” أيضاً في لقاءٍ خاصّ، بأن: “الكثير من وقائع يوميّات الشاعر “بابلو نيرودا”، والمذكورة في كتابه: “أعترف بأنني قد عِشتْ”، هي من اختلاق مُخيّلة ورؤى شاعرٍ كان عظيماً حتى الأسطورة”. ويُروى أن “نيرودا”، الحاصل على جائزة “نوبل”، عندما عرضتْ عليه الروائية التشيلية الأشهر “إيزابيل الليندي” في بدايتها الصَّحفية، أن تُجري معه مُقابلة صحفية، رفض بشدّة قائلاً: “إنك تكذبين دائماً في مقالاتك، وأنا واثقٌ بأنه إذا لم يكُن لديّ ما أقوله لكِ فستختلقين قِصّةً ما حتى لو لم يكُن هناك أيّ شيء.. لِمَ لا تتّجهين لكتابة الأدب؛ حيث تُصبح كلّ هذه العيوب مُميّزاتٍ وفضائل”!؟ والطريف في الأمر، أن تلك المقابلة التي قدّم فيها الشاعر للصحفية تلك النصيحة الذهبية أدّتْ إلى نشر أول كتاب لها، وبعد عشر سنوات من تلك المقابلة نشرتْ “الليندي” روايتها “بيت الأرواح”؛ وهي الرواية التي وضعت اسمها على طريق الشُّهرة والمجد، فأصبحت من الأسماء المُرشّحة دائماً للحصول على جائزة “نوبل” في الأدب. إذن، فالكاتب يكذب أحياناً، أو يتخيّل أو يحلُم؛ إنها الأكاذيب البيضاء الجميلة، الشبيهة بحكايات الجدّات المُسليّة في ليالي الشتاء، أو حكايات “شهرزاد” في “ألف ليلة وليلة”، أو “رحلات غوليفر”، أو “حيّ بن يقضان”، أو “روبنسون كروزو”.. فإذا كان العقل جوهرة الإنسان، فإن الخيال جوهرة العقل؛ معدنه المُشِعّ ونبعه الذي لا ينضب ولا يجفّ، الخيال كلمة السّحر ومفتاحه الذي لا يصدأ، وباب المجاز الذي يُخبّيء خلفه ألف باب.. ليس الخيال نقيض الواقع ولا نِدّ له، إنه الضوء الذي تُستكشف بوساطته طبقات الواقع، لنعرف بعض ما يُفاجئنا من خفايا وأسرار.. وفي البحث عن نشأة الفنّ القصصي، تُقابِل “الأكاذيب” حقائق العالَم الصُّلبة، وهي تضرب جذورها عميقاً في أرض الواقع، لتحُدّ من قسوته وجفافه. فمما يُروى في أحد التصوّرات، أن فنّ القصّة قد نشا في القرن الرابع عشر في “روما” داخل حُجرةٍ من حجرات قصر “الفاتيكان”، كانوا يُطلقون عليها اسم “مصنع الأكاذيب”، اعتاد أن يرتاده في المساء نفرٌ من سكرتيريّ “البابا” وأصدقائهم، للّهو والتسلية وتبادل الأخبار. وفي “مصنع الأكاذيب” هذا، كانت تُخترع أو تُقصّ كثير من النوادر الطريفة عن رجال ونساء “إيطاليا”، بل وعن “البابا” نفسه، مما دعا الكثيرون من الأهالي إلى التردّد على هذه الندوات الشيّقة. وإذا تتبّعنا أثر الأكاذيب في صياغة الفنّ عموماً، والفنّ القصصي على نحوٍ خاصّ، سيبدو الأمر أبعد من ذلك وأوسع من أن تحدّه غُرفة في “الفاتيكان” مهما كانت مساحتها، فإن “وظيفة الكذب” تُفصح عن حاجةٍ إنسانية للتجلّي والخروج من رتابة الواقع من خلال اللُّغة.. وكذب الخبر؛ كما يقول “الشريف الجرجاني”: هو “عدم مُطابقته للواقع”. بيد أن ذلك لم يمنع العلّامة “أبو العباس المبرّد” من أن يجعل لها باباً خاصّاً أسماه “تكاذيب الأعراب”، في كتابه: “الكامل في اللُّغة والأدب”، وربما ذهب فيه لتفسير الكذب وأخباره في سياقٍ اجتماعي تغدو المُسامرة فيه قواماً للتّخيل، لنقض قسوة الواقع من أجل الذهاب إلى الحُلم؛ الأفق الأبعد للتصوّر الإنساني، لتُحافظ المحكيات السردية على مُهمّتها في أن تُعيد حكاية العالَم على نحوٍ يليق بأحلامنا. إننا في الغالب نُصدّق، أو نُفضّل أن نُصدّق كلّ ما نقرؤه وإن كُتب بطريقةٍ فانتازية، ربما لنحمي ذواتنا من الواقع المُرّ، فنهرب إلى تلك الأكاذيب الجميلة التي لا تُكلّفنا سوى ساعة أو بضع ساعات يومياً، لكي نتوازن ونُشذّب الواقع، ونحثّ أحاسيسنا التي أوشكت على الجفاف، لتُمسك بجذوة الأمل التي كدنا نفقدها في زحمة الحياة. يقول الأستاذ “توفيق الحكيم” في كتابة “عصفور من الشرق”: “الخيال هو ليل الحياة الجميل، هو حصننا وملاذنا من قسوة النهار الطويل.. إن عالم الواقع لا يكفي وحده لحياة البشر، إنه أضيق من أن يتّسع لحياة إنسانية كاملة”.