في كتاب الباحث الموسيقي محمد السنان «الموسيقا والحضارة»..

الموسيقى الشرقية ومعوقات الوصول إلى العالمية.

«وزعمت الفلاسفة أن النغم فضل بقي من “المنطق” لم يقدر اللسان على استخراجه، واستخرجته الطبيعة بالألحان على الترجيع لا على التقطيع، فلما ظهر عشقته النفس، وحنت إليه الروح». هذا ما يقوله ابن عبد ربه في كتابه “العقد الفريد” عن علاقة الموسيقى بالفكر، أما منطق الموسيقى نفسه، والذي تصف به نفسها - والشرقي منها على وجه الخصوص - فذلك ما يمكن الاطلاع عليه في كتاب الباحث الموسيقي محمد السنان “الموسيقا والحضارة” * والذي سنستعرض جزء يسير منه في هذه المقالة. يفتتح السنان كتابه بمقدمة ومدخل يدلل فيهما على تلازم وارتباط تطور الموسيقا بالتقدم الحضاري لدى الشعوب. فبالرغم أن علماء التاريخ لم يتوصلوا حتى يومنا هذا إلى معرفة الكيفية التي تعرف بها الإنسان إلى الموسيقا وكيف أدخلها في حياته، إلا أنهم - كما يقول الباحث - قد استدلوا على وجودها وحضورها المبكر في التاريخ. فقد اكتشف علماء الآثار رسومات جدارية قديمة تظهر الإنسان في مهد الحضارة (مدينة أور البابلية) وهو يعزف على آلة “الليرا” ذات الأحد عشر وتراً، ومزامير تتكون من حزمة من أنابيب من الغاب “البوص” متدرجة في الطول لكي تعطي سلماً نغمياً، مما يدل على أن الإنسان منذ ٥٠٠٠ عام وربما أكثر قد تجاوز مرحلة الاستمتاع بالصوت الموسيقي المفرز إلى تتابع الصوت. أما عن أسباب نشأتها، فيرجع ذلك الباحث إلى أنها كانت مواكبة للفطرة الإنسانية في الانسجام مع الإيقاعات والأنغام، وقد تطورت من خلال ارتباطها بالسحر والمعابد القديمة. فمنذ قرابة العام ٣٠٠٠ ق.م نجد موسيقيين يقودون فرقاً للإنشاد في معبد “ننجرسو” السومري الكبير وغيره، وفي الهند كانت النغمات الهندية تدرس من أجل الطقوس الدينية، وكانت التربية الموسيقية في الصين القديمة مرتبطة بالطقوس الدينية أيضاً. عن تطور الموسيقا والغناء في الجزيرة العربية قديماً، يذهب أكثر المؤرخين إلى أن أول صوت غنائي كان “الحداء” أو الركباني، وهو غناء القافلة، وينسب ذلك إلى مضر بن نزار بن معد، ثم أدخل بعده، الشاعر المغني النضر بن الحارث الذي قدم من الحيرة، الغناء المتقن الذي حل محل “النصب”؛ وهو الحداء المحسن، فاستبدلوا حينها “المزهر” ذا البطن الجيري بالعود ذي البطن الخشبي. وفي القرن الرابع الميلادي ازدهر الشعر والموسيقا إبان حكم ملوك سبأ من بني حمير، ومن اليمن انتقلت الموسيقا والغناء إلى مكة والمدينة. ثم يمر الباحث على العصور العربية التالية، كالعهد الأموي الذي برز فيه العديد من المغنيين العرب؛ كـ “سائب خائر” الذي أسبغ الروح العربية على الغناء الفارسي، واستخدم العود بدل القضيب في الغناء، وسار فيما بعد على نهجه من تتلمذ عليه أمثال ابن سريج ومعبد ومن النساء عزة الميلاء وجميلة. ثم يضيف: وفي ذلك العصر سطع نجم سعيد بن مسجد في مكة المكرمة، ومن خلال رحلاته في بلاد فارس والشام استطاع أن يتعلم الكثير من النظريات والقواعد الموسيقية. في الدولة العباسية لمع نجم إبراهيم الموصلي وابن جامع وغيرهم، كما لمع نجم الفيلسوف الكندي في الموسيقا وكان له أول تدوين موسيقي في كتابه “رسالة في خبر تأليف الألحان”، كما تناول أيضاً ابن سينا الموسيقا في كتابه “الشفاء”. وعن جهود ترجمة البحوث التي كتبت عن الموسيقا الإغريقيّة إلى العربية، فيرجعها الأستاذ السنان إلى القرن التاسع الميلادي، وكان أهم هذه البحوث ما تعلق بالسلم الموسيقي اليوناني والنظريات الموسيقية بصفة عامة. وحينها، استطاع العرب في سنوات قلائل أن يتفوقوا على الإغريق أنفسهم بعد أن أضافوا من عبقرياتهم قواعد وأساليب جديدة في العزف والتلحين والأداء، وتعترف بذلك الدوائر الموسيقية الغربية في أن العرب استطاعوا بين القرنين التاسع والثالث عشر الميلادي أن يضعوا حوالي مئتي مصنف متفرع في سائر الفنون والعلوم الموسيقية، وأن هذه المصنفات ذات أهمية بالغة، حتى أنها أثّرت في الموسيقا الغربية. وعن تراجع ذلك التطور الباهر في الموسيقا وتعثر مسارها، فيصله ببداية عصر الانحطاط العام لكافة أصناف العلوم والثقافة في القرن الخامس عشر؛ حتى أنه ما يزال تاريخ الموسيقا في الشرق الأوسط خلال الحقبة العثمانية حوالي ١٥١٧ - ١٩١٨م) مجهولاً إلى حد ما. نشأة الفن الموسيقي في المملكة العربية السعودية هو الموضوع المركزي في كتاب الباحث محمد السنان حيث أرخ له في فصول عديدة من الكتاب؛ تناول فيها بداياته منذ العقد السادس من القرن الماضي إلى وقتنا الحاضر، وكان منهجه هو تتبع الحراك الموسيقي في مناطق المملكة المختلفة من خلال سيرة الفنانين الرياديين في هذا المجال، ومساهماتهم في تطور هذا الفن ونشره. الموسيقا الشرقية.. نظرة نقدية من الداخل: بالإضافة إلى كون الكتاب ممتعاً ومرجعاً مهماً عن تاريخ تطور الموسيقا في المملكة العربية السعودية، إلا أن ملاحظته المثيرة في سياق حديثه عن الموسيقا الشرقية يدعونا للعودة بالتركيز عليها لأهميتها؛ وذلك في إشارته إلى معوقات وصولها إلى العالمية من جهة، وبما يتعلق ببنية الذائقة العربية وقصورها عن التعاطي مع الموسيقا “المجردة” من جهة ثانية. فعربياً، تكمن المشكلة في كون الموسيقا العربية ملتزمة دائماً بالنص الشعري، وذلك من مبدأ أن علاقة اللحن بالنص علاقة تابع بمتبوع. بمعنى أنه إذا كان النص هو الأساس فإن الموسيقا تكون مقيدة، لأنها تحاول أن تتقيد بالمضمون الذي يعبر عنه النص، وهذا يتنافى مع طبيعة الموسيقا الحرة. فالموجود لدينا، كما يقول، غناء بمصاحبة الآلات الموسيقية فقط، ويعود ذلك برأي الباحث، إلى أن تركيبة ثقافتنا – منذ عرف العرب الآلات الموسيقية – هي في الأساس قائمة على الكلام، كالشعر المقفى أو النبطي أو ما شابه ذلك... فالكلمة عند العرب هي المقدمة وليست الموسيقا. ثم يتحوط السنان بمناقشة الآراء التي تعارض ذلك وتقول بأن كلا من محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي ومحمد القصبجي وغيرهما قد قاموا بتأليف مقطوعات موسيقية “آلاتية”، وهذا صحيح إلى حد ما - كما يقول - لكن تلك المقطوعات في غالبها قصيرة جداً وتعتمد بشكل كبير على القوالب التركية والفارسية التي تعتمد أساساً على التنوع الإيقاعي. فعبد الوهاب مثلاً، قد ألف ما يزيد على عشرين مقطوعة موسيقية، لكن تلك المقطوعات قد تم تأليفها من أجل أن يُرقص عليها، فهي قطع موسيقية أقرب ما تكون للكاباريهات والكازينوهات منها للإمتاع السمعي، وذلك لاعتمادها أساساً على الحركات الإيقاعية المتنوعة التي تتطلبها الرقصات الشرقية أكثر من اعتمادها على البناء اللحني العميق، فهي ليست موسيقا للتأمل، لأنها خالية تماماً من أية جماليات لحنية ذات عمق فني. ويردف الباحث، فقد كانت آخر مقطوعة ألفها عبد الوهاب في حياته هي “قمر” التي ألفها خصيصاً لترقص عليها نجوى فؤاد. هذا بالطبع – يستدرك السنان - لا ينفي أن عبد الوهاب لم يكن قادراً على تأليف قطع موسيقية راقية وثرية. بل على العكس من ذلك فقد كان يدرك بأن تأليف قطع موسيقية آلاتية يتطلب أن تكون هناك ثقافة موسيقية لدى المتلقي العربي وأن توجد آذان تتذوق الموسيقا غير المصاحبة للغناء، وقد أدرك أيضاً أن الوسيلة الوحيدة لتحقيق ذلك هو دس إبداعاته في التأليف الموسيقي من خلال بعض أغانيه مثل “بفكر في اللي ناسيني”، التي صدّر مقدمتها بمقطوعة موسيقية رائعة صاغها بأسلوب سيمفوني ثم صبها بذكاء في قالب شرقي رائع فرضها على أذن المستمع من خلال الأغنية، وقد تقبلتها أذن المتلقي بإعجاب دون أن تدرك بأن عبد الوهاب إنما أراد بتلك المقدمة أن يعوّد أذن المستمع العربي على تذوق الموسيقا. مع أن بعض النقاد قد اتهمه بتغريب الأغنية العربية من خلال تلك المقدمة التي تحمل الطابع السيمفوني الغربي. فقد كثف عبد الوهاب من الجمل الموسيقية في الأغاني وقام بكسائها بمقدمات موسيقية قاربت أن تكون قطعاً لحنية تامة، يمكن اعتمادها بمفردها. كما أخرجها من قوالب السماعي والبشرف واللونجا التركية، وأدخل على الموسيقا العربية نفساً غربياً عميقاً نقلها إلى عالم البوليفوني والهارموني. بالإضافة إلى عبد الوهاب، كانت هناك محاولات قام بها نفر قليل من الموسيقيين العرب لتأليف قطع موسيقية، وعلى رأسهم الموسيقار توفيق باشا، الذي قام في بداية الستينيات باختيار بعض الأغاني العربية من الأربعينيات والخمسينيات وتحويلها إلى موسيقا آلاتية ذات توزيع متقدم على نظام “الاستيريو”. كما قام بتأليف بعض السيمفونيات التي لم تنل نصيبها من الانتشار في العالم العربي، وذلك لعزوف شركات الإنتاج عن تبني مثل هذه الأعمال وتوزيعها والإعلان عنها، بحجة غياب الذائقة الفنية في العالم العربي للموسيقا الآلاتية. الإعاقة عن وصول الموسيقا الشرقية إلى خارج موطنها، يرجعه الباحث السنان إلى أن الفن الغنائي الحديث بموسيقاه، ارتبط بما يعرف بـ “التخت الشرقي” والذي نشأ بعد الحملة الفرنسية على مصر من النصف الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي، وقد كان التخت الشرقي في بدايات تكوينه يتكون من خمسة إلى ستة عازفين على آلات شرقية مثل العود والقانون، والناي، الكمنجة، الطبلة والرق. ومع مرور الزمن تطور التخت الشرقي وأصبح على الهيئة التي نراها عليه اليوم. ثم يجادل الباحث السنان بقوله: قد يعترض البعض على إطلاق صفة التخت على الفرق الموسيقية المعاصرة بما تحتويه من آلات موسيقية حديثة ومتطورة وأخذها بوسائل التكنولوجيا الحديثة، غير أن ذلك لا يغير كثيراً من طابعها الشرقي البدائي في طريقة العزف “المونوفوني”، وإن تخللها أحياناً بعض من “الهارمونية”، فهي لا تزال عاجزة عن اتباع الأسلوب الـ “بولوفوني” في العزف والذي قد يؤهلها أن تتحول إلى فرق أوركسترالية، كما هو الحال بالنسبة للفرق العالمية. ثم يمضي الأستاذ السنان في تعليله: إن معظم الشعوب الأوروبية لا تستطيع أن تتذوق أرباع النغمات الموجودة في الموسيقا الشرقية والعربية بشكل خاص.. وقد تعتبرها نشازاً. وهذا ما يفسر عجز الأغنية العربية عن الوصول إلى العالمية، برغم وجود فنانين وملحنين كبار على مدى أكثر من قرن كامل مثل محمد عبد الوهاب، محمد القصبجي، رياض السنباطي. إذ لا يمكن بأي حال للموسيقا العربية أن تصل للعالمية طالما أنها متمسكة بالسلم الموسيقي الشرقي الذي تتميز به والذي يحتوي على ثلاثة أرباع التون، والذي لا تتذوقه الأذن الغربية. بل إنها تعتبره نشازاً، هذا بالإضافة إلى التعقيدات في البناء المقامي العربي. وهذا ما دعا السنان لأن يطلق نداءه بأن الموسيقا العربية محتاجة لثورة تصحيحية، تطور من قواعدها وأساليبها دون المساس بهويتها. في النهاية، يقرر الباحث الموسيقي محمد السنان أن نوعيات الموسيقا تختلف فيما بينها وتتنوع في تركيباتها وإيقاعاتها وبحورها وتصنيفاتها. فإذا أخذنا مثلاً الموسيقا الرفيعة التي يطلق عليها “الجادة” والتي لا ترتبط بالشعر أو الكلمات، بل تعتمد على ثراء التركيبات الصوتية لوجدنا أن هذا النوع من الموسيقا يتطلب من المستمع انتباهاً كاملاً واستعداداً ذهنياً للاستقبال أو شعوراً بالحاجة إلى تلك الوجبة الدسمة من الغذاء الروحي. وأن التذوق الموسيقي الآلاتي يختلف عن التذوق الموسيقي المصاحب للغناء. فالأول يحتاج إلى تربية ونشأة في بيئة تكون الموسيقا الآلاتية فيها جزءاً من ثقافتها وممارستها اليومية، وتقدم ضمن المناهج المدرسية كمادة علمية وفنية في الوقت نفسه. لذلك نجد أن الغرب يؤثر الاستماع للموسيقا الآلاتية أكثر من الاستماع إلى الموسيقا المصاحبة للغناء. بل إن الأغاني نفسها يتم عمل نسخ منها مرادفة عند طرحها في الأسواق بالموسيقا فقط، وتتولى إحدى الآلات القيام بأداء الصولو بدل المغني. ما لم يقله الأستاذ محمد السنان صراحة في كتابه عن طبيعة فنه الموسيقي وتجربته، صرح به في إحدى لقاءاته الإذاعية السابقة، بأنه عمد إلى تغيير بعض مقطوعاته الموسيقية التي ألفها سابقاً كسمفونيات، وهيئها لتتوافق مع بعض الأغاني التي عمل على تلحينها من أجل ألا تظل حبيسة في أسطوانات لا يستحسنها الجمهور العربي. ومن جهة أخرى، فلكي تتحول تلك المقطوعات إلى سيمفونيات أو كونشيرتوات، كان يستلزم إسناد عمل التوزيع الموسيقى إلى موزع محترف، وهو ما قد حدث بالفعل؛ عندما تعاون مع موزع تشيكي، لكنه بعد قراءة النوتات الموسيقية اعتذر، بسبب أن تلك القطع تتضمن ثلاثة أرباع التون الغير مفهومة بالنسبة للموسيقى الغربية، كما أنه لا توجد لها رموز في النوتة الموسيقية، وهي بالنسبة للذائقة الغربية نشاز موسيقي. أما عن منهجه “التلحيني”، أو طريقته في تصميم الجمل الموسيقية، فتكمن في أنه لا يلحن الكلمات والجمل الشعرية، إنما يستشف ما توحي به تلك الكلمات من عواطف ومشاعر فيسعى إلى تمثلها وترجمتها بلغة الموسيقى، فتصبح قابلة - حينذاك - أن تُسمع بالكلمات، ومن دونها أيضاً. ــــــــــــــــــــــ *محمد السنان: كتاب “الموسيقا والحضارة”. - من منشورات الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون، ودار مدارك للنشر - ط١، ٢٠١٦