ذاكرتان

(1) المعاول الحاقدة  تدك الجدران والأعمدة ، جدار ينهدم وآخر ينهض ، أصوات المعاول والمعدات الصاخبة تفتك بالصوت القديم اللاصق على الجدران، ينهدم المتكأ وينبت مكانه جدار كبير وعريض، هكذا تتغيّر الملامح كليّاً، فيجرف العمال حطام الجدران والأعمدة والأنقاض، ويقذفون بها إلى حاويات تصطف في الشارع أمام البيت . عمال آخرون يعالجون داخل البيت ما انقطع وما اتصل من جدران وأعمدة حتى استوى بيتاً جديداً، وامحت صورة البيت القديم، فإن عادت ذكرى الغائب فلن تجد لها مثوى وتستنكر المكان فتأفل وتنصرف. بتوجس عادوا إلى بيتهم ، بين شوق وخشية وتربص ، دَهَشتهم صورة البيت الجديدة ، اطمأنوا أن تستكين  قلوبهم في مراقدها فلن تفزعها ذكرى الغائب ولن يتماهى المكان الجديد مع صورة لابثة في أذهانهم عن فقيدهم . طافوا في صالة البيت وغرفته الخاصة ولا أثر لما يستدرّ خيط الذاكرة ويجلب لأذهانهم الصورة الساكنة في ذاكرتهم ، إذ أخلصت المعاول في رسم خارطة جديدة للبيت لا صلة لها بالقديم . حتى صوته الذي كان يلحّ على مسامعهم تلاشى من ردهات البيت وزواياه . في صالة البيت سهروا حتى منتصف الليل يهذون بأحاديث بعيدة ويضحكون، ثم غادروا إلى غرف نومهم ليستوحدوا مع ذاكرتهم الحزينة . (2) انتفض ، دفعه حنين السنين لاحتضانهما ، انتصرت الذكريات الغائبة منذ سنين ، تتابعت في ذهنه يدفع بعضها بعضاً ، شاهد كلّ تفاصيل الذكريات أملتْ عليه بؤسه ونزغاته ، مكثت ذاكرته عند فواصل الأحداث والأحاديث ، تغرق في استلالها من مهاجع الزمن الفائت ، توقظ كل ذاك العنت والصراخ . يدفع الكهل عربة التسوّق أمامه وتسير خلفه زوجته العجوز ، سار يحاذيهما ، يحاذي السنين الغابرات المثقلات بصلفه ، الكهل والمرأة العجوز في شأنهما لا يلتفتان ، وهو ماكث بينهما يستقي ذكرى البيت القديم وصلف الحادثات الغابرات ، كانا يستغيثان الله له بالهداية فيزيد عنته ويقهرهما بعصيانه . كيف نهضت تلك الأيام فجأة من غفوتها ! كيف بدت له قاتمة لا تكاد تبين عن مكنوناتها ! الكهل يحادث العجوز بصوت رقيق ، اجتذبه صوت أبيه وكأنّ معادلة الزمن تغيّرت ، هوى عليهما بقلبه واحتضنهما ، وغرق في بكاء صامت .