الأستاذة الطـيّبة.

الطيبة الفطريّة، والبراءة النقيّة، أقامت وشيّدت لها الأستاذيّة، وساقت إليها جملة من الصفات الحبيبة النديّة، وقرّبتها إلى النّفوس فأحبّتها، وإلى القلوب فألِفتها، وهذا خير ما يُتوّج به أستاذ ويحظى به معلِّم. هي: موضي بنت صالح السديس؛ جدّة الفتى لأمّه، المرأة الأميّة، التي وجد فيها مثال الحنان والبراءة، وعنوان الحبّ والطهارة، وعرفها طيّبة مُطيّبة، فاضلة مُفضَّلة، فشرُف بمحبّتها وسعِد بحبّها، ووجدها خير مَن يصدق عليه الوصف بـ “مخموم القلب، صدوق اللسان”؛ نقيّة كالماء الصافي في نبع جارٍ من الغلّ والحقد والحسد، لا يتسلّل إلى كلامها ـــ وإنْ قلَّ ـــ كذب أو بهتان. تقلّب الفتى في قربها ولقياها عقودًا، وعاصرها وجلس إليها أطوارًا؛ فما رأى تلك الصفات تخلّفت يومًا، أو غاضتْ وقتًا، وتعلّم من تلك الطيبة والبراءة الكثيرَ الجميلَ، ووعى من دروسها الوفيرَ الجزيلَ. عرفها في أوائل فصول دراسته في مدرسة الحياة؛ فوجدها أستاذة في الجدّ والعمل المتواصل الذي لا يهدأ في ليل أو نهار، تتنقّل من عمل إلى عمل، ومن مهمّة إلى أخرى، من غير تضجّر أو تململ؛ في رعاية لشؤون أولادها، وعناية بمتطلبات أسرتها، كم مرّة وقف يرمقها أولَ استيقاظه في الصباح الباكر بباب ذاك المنزل الطيني الأثير إلى قلبه، فيراها تخضّ اللبن بعد أن حصدت وحلبت وسعت وطبخت؛ فيَعجب ويُعجب! من الفصول التي درسها الفتى مع أستاذته ذاك الحبُّ الدّافقُ لأهلها وأولادها؛ حبًّا ممتدًّا متجذِّرًا فيمن تعلّق بهم، أو متَّ إليهم بصلة؛ تأنس بذكرهم، وتبتسم ابتسامة تبعث الرّاحة والسعادة إذا سُئل عنهم، أو ذُكروا بخير، وتُرطّب لسانها بالدُّعاء لهم من أصدق قلب. زادها ذلك صِلة وبرًّا، فظلّت وفيّة لمن حولها، مشاركة لهم في أفراحهم وأتراحهم، يسعد أولادها ـــ كما سعِد حفيدُها ـــ بتنقّلها بين بيوتهم، وكان وجودها في البيت مصدر زينة وسعادة، وبثَّ حياة ومسرَّة. ولم يكن حبُّها ضيّقًا كحوض نخلة واحدة من نخيل المزرعة التي شهدت مسقط رأس الفتى، وأوّلَ لقاء بينهما، لكنّه حبٌّ كسعة مزارع النخيل مجتمعة، يستمدّ منه الكلّ طاقة، ويستقي كل فرد منه غَرفةً هنيّةً، تحبّ الناس قريبهم والبعيد، وتُسرّ بمسرّاتهم، وتحزن لأحزانهم. وكان من آثار هذا الحبّ والمودّة إيثار ظاهر، وتفانٍ بادٍ حاضر، لا يأفل ولا يغيب، تؤثر غيرها على نفسها على كل حال وفي كل حين. ولحق الفتى من إيثارها ما رآه حين رافقته في المستشفى طفلًا، فكانت تنام في سريره الصغير لينعم بالسعة والراحة في سريرها الكبير، وتصرّ على ذلك ـــ مع إلحاحه ـــ بدعوى أنّ راحة المريض أولى، وكان ذاك من أوائل دروس الأستاذة القارّة! وحين يتسع قلب المرء للحبّ ويفيض، ويمتدّ إيثاره للغير ويزيد؛ فلا تسأل عن كرمه، وهكذا كانت الأستاذة كريمة سخيّة؛ فلا تحجب شيئًا مما في يدها، ولا تمنع أحدًا مما عندها، لا تنام وفي محفظتها شيء من مال، سخيّة مع من يخدمها أو يعمل معها، كثيرة الإهداء على الأطفال؛ عرفتهم أو لم تعرفهم، لا تمشي من غير استعداد لإهدائهم، وإذا أعطت وهبت بسخاء لا تفكّر فيما بعد ذلك، فإذا خلت حقيبتها وقتَ رغبةٍ في الإهداء حزنت وتأسّفت، وبحثت عن أيّ شيء لتهديه، علّمتْ صاحبنا بذلك أنّ ما يُسعد به غيرَه جالبٌ لسعادته وراحته ولا ريب. وفي الجانب الآخر من دروس الأستاذة كانت دروسٌ تقدّمها مرئيّةً آخر الليل، حين تهجر فراشها وتُهرع إلى سجادتها تراوح بين صلاة وذكر ودعاء يمتد إلى ما بعد صلاة الفجر؛ فألف الفتى منظرها ذلك الذي لا يغيّره مرض ولا تعب، في مداومة عجيبة، وهمّة دؤوب. في لقائهما الأخير قبل وفاتها بيومين كان صاحبنا يداعبها ويستجلب ضحكتها وهو يقول لها إنه ما زال وقد خالط الشيبُ شعرَه “أُحيمدها” الصغير الذي تذكره وتعرفه وتألفه، فتنطلق منها ضحكة مُطربة، وسعادة مُبهجة، ثمّ ودّعها وهو لا يعلم أنه اللقاء الأخير بينهما. بهذه السيرة تعلّم صاحبنا علومًا، وتلقّى دروسًا، لم ينلها في قاعة دراسية، ولا غرفة صفيّة، بل في باحة الحياة وساحتها الواسعة، وعرف موضي الصالح حقّ المعرفة، فعلّمته الصلاح والوضاءة في أجمل صورهما، وأنّ العلم ليس حصرًا في الكتب والدفاتر.