نوفمبر وديسمبر يضيئان المسرح السعودي.

يشهد المسرح السعودي اليوم تحولاً يتجاوز حدود النشاط المسرحي إلى أفقٍ أعمق، هو تحول الوعي المؤسسي والفني والمعرفي تجاه المسرح بوصفه ممارسة ثقافية تُعيد للإنسان علاقته بذاته ومجتمعه وعلى اعتبار أنّ التجربة المسرحية في المملكة اليوم فعلاً ثقافيا منظَّمًا يستند إلى رؤية واضحة تشترك في صياغتها وتحولاتها الراهنة هيئة المسرح والفنون الأدائية وجمعية المسرح والفنون الأدائية،حيث تلتقي السياسات بالتطبيق والتنفيذ،ويتحوّل الدعم المؤسسي إلى طاقة خلاقّة مثمرة في فضاء ثقافي تأملي يستند إلى العمل الجماعي وفق تنسيق أفقي متكامل,إذ تقوم هيئة المسرح والفنون الأدائية بوصفها الإطار التشريعي والتنظيمي الذي يضع السياسات ويرسم المسارات المستقبلية للمسرح بسعي حثيث وجدير ليكون المسرح السعودي ركنًا من أركان الوعي الجمالي والإنساني،ومجالاً لترسيخ الهوية الثقافية بما تحمله من استشراف عميق يستنطق الحكايات والطقوس والأساطير والمسرح تحديدا في محاولات لحفظ كثير من ملامح الهوية والجماليات في بنية الذاكرة الثقافية من خلال المشروعات والمبادرات المقدمة. أما الجمعية فهي الجسر الذي يربط الفكرة بالفعل عبر إدارة المشاريع، وإقامة المهرجانات، وتنظيم الورش والملتقيات، ولتتحول الرؤية النظرية إلى تجربة حية وممارسة فاعلة. هذا التكامل والتقارب بين المؤسستين سيسهم في بناء بيئة مسرحية متوازنة قادرة على توليد المعنى من الفعل الإبداعي المسرحي، وسيجعل من المسرح السعودي مساحة للتفكير في جوهر التفاصيل قبل أن يكون وسيلة للعرض. في شهر نوفمبر الحالي وفي أجواء تثاقفية دالّة ومعبّرة تتجلى هذه العلاقة من خلال مهرجانات أعلن عنها مؤخرا من قبل الجهتين كمهرجان الديودراما ثنائي التمثيل في الطائف ومهرجان المونودراما أحادي التمثيل في الدمام وتستضيفهما جمعية الثقافة والفنون كشريك استراتيجي.ويأتي ديسمبر كذلك ليواصل هذا الامتداد ويختم الموسم بمهرجان مسرح الرياض في دورته الثالثة, والذي يمثل اليوم رمزًا لتجذر الوعي المسرحي في المشهد الثقافي السعودي. هذه الفعاليات ليست مجرد محطات احتفالية، بلّ إشارات إلى تشكّل وعي جديد بالمسرح كقيمة إنسانية، ومجال للتنوير والمساءلة وفتح أفاق أخرى، وفضاء يجمع بين الفكرة والتجربة، تتلاقى فيه الطاقات الإبداعية والمؤسساتية لتؤكد أن المسرح لم يعد هامشًا من الحياة الثقافية، بل جزءًا من بنيتها الأساسية, فحين تُترجم السياسات إلى عروض، والمبادرات إلى رؤى مجسّدة يتحول المسرح إلى لغة تواصل بين الإنسان وذاته، وبين المجتمع وثقافته. ولعل القيمة الأعمق في هذا المشهد تكمن في أنّ المسرح السعودي اليوم لا يكتفي بتقديم العروض، بلّ يسعى إلى بناء فلسفة مسرحية جديدة، تؤمن بأن الفن ليس ترفًا بل ضرورة، وأن الخشبة ليست منبراً للفرجة فقط، بلّ ميدان للتأمل وبالتالي فهو الفضاء الجمالي الذي يعلّمنا كيف نفكر بالحواس، وكيف نصوغ أسئلتنا من خلال الصورة والحركة والإيقاع والأداء , كيف نقدم عروضنا ونعرضها على محك الممارسة في حضرة متلقٍ واعٍ وممثل قدير وكاتب رفيع ومخرج متمرس والشواهد لدينا كثيرة في فرقنا المسرحية السعودية واسألوا منصات التتويج محليا وخليجيا وعربيا عن هذا.! ومن هنا فإن تثبيت نوفمبر وديسمبر كموسم مسرحي سنوي هو مؤشر واضح عن نضوج التجربة ,واستمراريتها هامة، ودليل على أن المسرح السعودي يسير نحو بناء هوية فنية راسخة، تتجاوز التكرار إلى التجديد، وتحول الفن إلى منظومة فكرية وجمالية تُسهم في تشكيل وعي المجتمع وإثراء ذاكرته الثقافية. وفي الختام يبقى من الضروري أن تحرص هيئة المسرح والفنون الأدائية وجمعية المسرح والفنون الأدائية على تعزيز ودعم أكبر لكافة عناصر منظومة المسرح السعودي ذات الروح الوطنية، بدءًا من التشريع والسياسات، مرورًا بالتدريب والابتكار وصولاً إلى الإنتاج والتنفيذ، وأظن أنّ مأسسة واستدامة هذا الدعم يرّسخ لحضور المسرح السعودي في الساحة الثقافية،ويحوله إلى منصة دائمة للتجارب المسرحية النوعية تعكس الإبداع المحلي وتؤسس لمستقبل مسرحي احترافي مستدام، يجعل من هذه الفترة موسماً مسرحياً سعودياً ثابتا ورمزا ينقش أسمه في سجلات الثقافة التي نراهن عليها. * كاتب ومخرج مسرحي ومهتم بالفنون الأدائية. أبها