قراءة في رواية أحمد الحقيل (دوائر)..
إشكاليات البحث و الوضوح والتيه ثلاثية الهوية والانتماء.
تعدّ هذه الرواية من أبرز الأعمال الروائية التي تنتهج أسلوباً جديداً في مقاربة وجوديّة ذات طابع فلسفي تتقاطع فيه الرؤى الواقعية و التاريخيّة والفكرية المتعلقة بالهويّة والسمات الأخرى المتّصلة بها ، وهذه الرواية تضيء شبكة من المصائر الإنسانية وكينونتها الوجوديّة ، حيث تشير العتبة الأولى في الرواية متمثلة في العنوان “دوائر” إلى الأواصر التي تربط بين حلقات مختلفة ذات أبعاد متعدّدة تتعلق بمطلقات تجريديّة تتمثّل في رحلة البحث عن المفقود و قوة الإرادة وحتميّة الأقدار. ثمّة من يشير إلى أن الحقائق الروحية - الدينية في رواية (دوائر) على متنها السردي ؛ فشخصية هاجر المصرية، التي عاشت زمنا في ظلّ الإمبراطورية الفرعونية، بكل أبعادها ولا سيما دلالة التيه في الأرض التي عاشتها هاجر بعدما اسكنها إبراهيم (عليه السلام ) في وادٍ غير ذي زرع مع ابنها إسماعيل، وأخبرها بأمر الله ثم رحل مؤكّداً أن تيه هاجر وتيه بطلي رواية (دوائر) ضاري وابنه إبراهيم في رحلتهما من نجد ( من المجمعة إلى مكة ) فإذا هم لا يجدون مكة وإنما صحراء قاحلة فيها إمرأة تركض من جبل إلى آخر تاركة ابنها الرضيع يبكي بين الرمال... ! هنا لفّ ضاري مقود السيارة وذهب إلى الأمام خائفاً فلا بد أنه في مكة وهو متأكد، لذا أين اختفت مكة ، وقد بدأ الرواية بعبارة “ لم يجد مكة في مكانها” ومن هذه النقطة تبدأ رحلة التيه والبحث عن أرض الوطن، ولعله لخّص رؤيته في هذه العبارات كما أومأ إلى ذلك بعض من عرّفوا بهذه الرواية وأتفق معهم في ذلك تماما : “الإنسان لا يتغير، لأن خارجه (الخارج عن نطاقه و إرادته و رغبته) هو الذي يحكمه، وليس هو الذي يحكم الخارج كما يظن، لذا تتكرر الحياة، وتتكرر ردّات الفعل، ويدور كل شيء على نفسه... أنت مجرد سائل يتشكّل في الجسم الذي تصنعه تلك الظواهر الضخمة خارجك، ولأن أكثر هذه الظواهر متشابهة في كل زمان ومكان كحقائق ثابتة، فأنت أيضاً لا تتغير، أنت كائن بلا سلطة، بتاتاً، ويعيش في سعادة وبؤس الوهم في أنه يملك سلطة ما، فلماذا تصرُّ على التمسك بهذا السجن الجسدي؟ هذا العجز المكبِّل في صيرورة تبعيته اللاواعية” تتكيء الرواية على سلسلة من المحاولات في شكل دوائر تنتهي من حيث تبدأ، تبدو مغلقة متداخلة تتماهى مع الفعل الإنساني في جوهره الذي ينضبط في إطار قدري مسبق تفضي إلى منعطف جديد أو تحوّل محدّد مسبق، فثمة تقاطع بينما هو واقعي وماهو إشكالي أيقوني في صيغة تأملية نفسية تستكشف آفاقاً شاسعة ذات بعد فلسفي بنَفَسٍ تحديثيٍّ يصطنع التجربة سبيلاً إبداعياً يسعى الكاتب إلى بلورته، عبر أسلوب سرديّ مبتكر ذي بعد رمزي وأفق تجريبيٍّ مقصود. وقد عمد الكاتب إلى بناء شخصباته في إطار اصطنع له منحى الرحلة التي تتسم بالرغبة في الكشف و الاستكشاف ، فضَاري وهو الاسم الذي اختاره الأب ؛ فالاسم ينتمي إلى المعتاد في البادية ؛ بالإضافة إلى ذلك يحيل إلى (الضواري ) من الوحوش المفترسة . يبدأ الرحلة من المجَمّعة بحثًا عن مكة التي تمثّل بعداً روحيّاً يسمو بالشخصية ويؤكد أصالة الهوية العقدية ونقاء الانتماء ؛ فإبراهيم ( الابن) وما يفضي به من إيحاءات روحية يشاطر أباه تلك الرحلة، ولكنه يعيش تجارب زمنيّة ومكانيّة مختلفة مع التقدّم في الرواية، وتتشعب معه الدائرة إلى جيلٍ ثالث ، و سنحاريب (وهو اسم يرتبط بابن إبراهيم من زوجة بابلية، هو اسم لسادس ملوك الإمبراطورية الآشورية) وهو بعيد الهمة كثير المغازي يمثّل الجيل الثالث، ويحمل معه بحثًا مختلفًا عن الهوية والانتماء، في أماكن جديدة. وثمة شخصيات أخرى عابرة تظهر في محطات زمنية مختلفة: مثل هاجر وابنها إسماعيل، وأما مدن بابل أوالطائف أو غيرها فهذه رموز تاريخيّة ذات بعد حضاري وثقافي تسبح في فضاء الأزمنة و الأمكنة. الرواية - كما هو واضح و كما أشار إلى ذلك نقاد الرواية - تتحرك في “دوائرمنظومة من الزمان والمكان تتداخل فيها الماضي والحاضر، وتعبّر عن التيه والضياع والبحث” تبدأ الرحلة من المجمّعة نحو مكة، رحلة أب وابنه عبر صحراء الجزيرة العربية؛ لكن مكة الهدف و المقصد - بما توحي به وتشير إليه - يتوه عنها ركب القاصدين ، وهذا يعني أزمة لها بعدها الرمزي المرتبط بالانتماء و الهوية ، وفي الطريق إليها يمرّ الركب بمحطات زمنيّة ومكانية تتحول بإيحاءاتها التاريخية إلى صور فلسفيّة “بابل القديمة” و “الطائف” وذلك في خضم الفوضى الزمنيّة القائمة على الاسترجاع والاستشراف حيث المتغيّرات و التحوّلات عبر الأزمان و الأجيال ،والبحث عن المحطات الحضارية التي تشكّل ملامح الهوية لدى كل جيل من الأجيال الثلاثة . أما المكان بإيحاءاته الكونيّة و الطبيعية في الرواية كالصحراء فهي توميء إلى سديم بلا ملامح وتعزّز مفاهيم البحث عبر مساحات بلا معالم ، ولكنها تحمل مفاهيم المعاناة و الصبر و الانتظار والعذاب و التيه ، فالدوائر ذاتها توميء إلى التَّكراروالاستمرار ؛ فثمّة اصضراب وتيه ؛ حيث يفقد الأب و الابن طريقهما نحو الهدف (مكة) قبلة الوصول وإدراك المراد ،، ضياع وانفلات وانحراف عن السبيل إلى الهدف المقصود ؛ وهنا تتجلّى الأزمة ، وهي أزمة هوية ترتبط بالجذور والتاريخ ،وتتراءى ملامح أخرى من المشاهد تختلط فيها المعالم مابين قسمات تاريخية تنتمي إلى عصور شتى وأخرى أسطوريّة و يختلط الحابل بالنابل ، ويضيق الأفق أمام الأب و الابن ومابينهما فضاء من الأنساب و الحقب (ضاري) وإبراهيم، وتتّسع الشقة و تبعد النّجعة بين التيه في فضاءات بلا تخوم وهدف مروم وقبلة مبتغاة ، وبعد موت الأب و ميلاد الحفيد فجوة زمنيّة هائلة و وعي مختلف؛ فالشقة بين إبراهيم وسرنديب في التاريخ واسعة وكذلك في القطر و العقيدة وإن كانت الساحة المكانية واحدة هي أرض الرافدين ، والفترة الزمنية التي ولّى العرش بعد وفاة والده الملك سرجون الثاني سنة 705 قبل الميلاد وحكم حتى سنة 681 قبل الميلاد، أي حوالي 24 عامًا؛ أما إبراهيم عليه السلام فعاش تقريبًا بين 2000 – 1825 قبل الميلاد ، و تنقّل في حياته بين: العراق وحرّان ومصر ومكة و فلسطين ؛ فالمسافة الزمنية بينهما شاسعة، وكذلك الفوارق الحضارية؛ ولهذا دلالته في هذه الرواية ، وإن كان الجامع بينهما البيئة المكانية التي توميء إلى حقبة من حقب التاريخ المشترك؛ إذ يوجد اشتراك زمني مباشر بين إبراهيم عليه السلام وسنحاريب،فكلاهما عاش في المنطقة نفسها لكن في حقبتين مختلفتين تمامًا:إبراهيم عليه السلام في العصر البابلي القديم وسنحاريب في العصر الآشوري الحديث بعد أكثر من ألف عام، ولعذا تتبدّى مجموعة من الأسئلة حول الرؤية في هذه الرواية التي تتجاوز المفهوم التقليدي للرواية التاريخية وهو ما سأناقشه فيما بعد. ثمة من يأخذ على الرواية أسلوبها التأمّلي البطيء لتتابع الوصف وكثرة النقلات الزمانية و المكانية ؛ ولكن ذلك لم يكن عبثاً ولكن له وظيفته ؛ فالرواية ذات بعد فكري توظّف فيها إيحاءات الزمان و المكان ما يعوض قلة الشخصيات وكثافة الدلالات ؛ فلا يمكن تطبيق الجماليّات التقليديّة على هذه الرواية التي تتسم بالتحديث و التجريب ؛ حيث التقاطع بين الإيحاءات الرمزيّة واللقطات الواقعية ؛ أما الصور السريالية فإنها تجعل القارئ يشعر بالتيه والفراغ الذي يعيشه الأبطال ، والنهج السردي الذي يعتمد على وقائع الرحلة فهو يتمثل فلسفة التأمّل في حقائق وجوديّة وفق نهج فلسفي يميل إلى التجريد في إطار التصوّر المتعلق بالبحث عن الهوية ، وهي مسألة يعاد طرحها بدقة في هذه المرحلة التاريخية التي تنتشر فيها ثقافة العولمة إشكالية الهوية وتتمثل في البحث عن مكة، ثم بابل، حيث يتخذ الطرح اتجاهين متباينين : الهوية العقدية والأخرى الحضارية العلمانيّة التي تتجاوز الطرح الشائع ، ما يعبّر عن أزمة جيل بكامله يكاد يفقد بوصلته في مفترق زمني بين الماضي والحاضر والمستقبل ، ما يعكس الصراعات النفسية والاجتماعية التي أفرزتها العولمة في إزالتها للمعالم والحدود بين الهويّات الكبرى ، الأمر الذي أدّى إلى هذه الصراعات الوجوديّة التي تجاوزت السطح إلى الأغوار النفسية وهواجس الفكر و النفس. ولعل من اهم الملامح التي تتّسم بها الرواية ظاهرة (الحواريّة) وفق مفهوم باختين بمعنى أن المؤلف لا يفرض رأيه، بل يمنح كل شخصيّة مساحة فكريّة متساوية لتعبّر عن ذاتها بحرية ، وقد استمدّ باختين من فن الموسيقى (البوليفونية) حيث تتعدد الألحان المتزامنة والمتكاملة دون أن يطغى أحدها على الآخر، فثمة أصوات متعددة ؛ فالرواية تستخدم أكثر من صوت روائي: صوت الأب، صوت الابن، وصوت الراوي العليم أحيانًا، مع تدخّل أصوات شخصيات ثانوية في بعض المحطات.هذا التنوع الصوتي يعكس التجربة الفردية لكل شخصية داخل الدائرة، ويتيح للقارئ رؤية الحدث من منظور متعدّد الطبقات، وتعدّد الأصوات فيها يُنمّي شعور التيه والانقسام النفسي للشخصيات، ويجعل القارئ أكثر وعيًاً بالزمن المتداخل والمكان الرمزي. والرواية تمزج اللغة العربية الفصحى بالعبارات المحليّة، أو بعض المفردات الأجنبيّة أحيانًا، خصوصًا عند الإشارة إلى الشخصيات غير السعودية أو الأماكن التاريخية (مثل بابل)؛ أما فيما يتعلق بتعدد اللغات فالمقصود به تعدد أنماط الخطاب في اللغة الواحدة:لغة المثقف، لغة السوق، لغة السلطة، اللغة الشعرية، العامية، الدينية، الساخرة... إلخ ، أي أن الرواية تحتوي تعددًاً في الأساليب واللهجات والسياقات الاجتماعية للغة؛ فتعّدد اللغات في الرواية عند باختين يجعل النص فضاءً للتفاعل الاجتماعي عبر هذه الأنماط من اللغة ؛ وكذلك فتنوّع الأصوات واللغات يعكس التحولات داخل المجتمع السعودي نفسه، حيث تتداخل الأصوات التقليدية مع الحداثية، المحلية مع العالمية . وقد تشكّلت الرواية عبر فصول أربعة تحمل عناوين ؛ كل واحد منها مكوّن من مفردتين مستمدّتين من العنوان الكلي (دوائر) فالعنوان الأول (الوضوح والتيه) يمثل الدائرة الأولى : وضوح الهدف ولكن النتيجة تتمثل التيه في الطريق إليه ، و العنوان الثاني (التيه و البحث) محاولة الخروج من مأزق التيه بالبحث عن السبيل إلى ذلك، و هذه الدائرة الثانية التي تتداخل مع الأولى ؛ أما العنوان الثالث فهو ( البحث – الوضوح) التي تقود إلى سلوك سبيل البحث وصولا إلى الوضوح ، ثم الفشل في ذلك فيتحوّل من الوضوح إلى التيه مرة أخرى (الوضوح – التيه) حيث الدائرة المفرغة فهذه البنية الدائرية مغلقة، وفي هذه الدوائر يستثمر الكاتب مختلف الأساليب الحوارية و الوصفية والتأملية، وما يشبه الحلم الذي يقارب حدّ الفانتازيا ؛ ومثل هذا الحيّز الضيق المتاح لا يتسع فيه المجال لتحليل مثل هذه الرواية الثريّة التي تقارب صفحاتها ثلاثمئة (288) صفحة .