تأزمات الفلسفة 2-1
أزمات الفلسفة جزء من تاريخها، كما هو الحال في بقية فروع المعرفة. ما سأقف عنده هنا هو بعض تلك الأزمات، ويتعلق ذلك البعض بتحولاتها وبمواقف الفلاسفة تجاه تلك التحولات وتجاه قضايا تتصل بثقافاتهم وظروفهم التاريخية. اخترت أن أتوقف عند ثلاثة من أبرز الفلاسفة الأوروبيين في العصر الحديث لتتضح لدى كل منهم إحدى الأزمات التي أراها ذات دلالة عميقة على مواقف أولئك الفلاسفة بقدر ما تتضح من مواقفهم طبيعة كل أزمة. نيتشه: زرادشت أم سقراط؟ في أعمال نيتشه، وهو بلا شك أحد أبرز أعمدة الفكر الأوروبي الحديث ومن الأكثر تأثيراً، يتضح التأزم بما هو مراوحة بين خيارات فكرية وحضارية صعبة. كان الفيلسوف الألماني مطلعاً على بعض مكتشفات الاستشراق الألماني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكان على الأرجح يعرف اهتمام غوته قبل ذلك بالثقافات الشرقية كما تجلت في “الديوان الشرقي للشاعر الغربي”. ومن خلال الاستشراق تحديداً عرف نيتشه عن الحكيم الفارسي، الذي يوصف أحياناً بالنبي، أي “زرادشت”، فاختاره ممثلاً أو قناعاً أو صوتاً، اختياراً لم يكن اعتباطاً بكل تأكيد كما لم يكن بالضرورة نتيجة لاطلاع مباشر على أعماله. صار زرادشت، مثل غيره من موروث الشرق، متاحاً نتيجة للجهود الاستشراقية التي جعلت الكثير من تراث فارس والهند والعرب وغيرهم متاحاً بالألمانية. وحسب ما ترى الباحثة سوزان مارتشاند، فقد كان اختيار زرادشت بدلاً من سقراط دليلاً على رفض الفيلسوف الألماني للموروث الفلسفي اليوناني، ابتعاداً عن الغرب لصالح الشرق: “من المؤكد” تقول مارتشاند “أن نيتشه اختار زرادشت ليكون بطله الفلسفي لسبب رئيس هو توجيه صفعة لمقابله اليوناني، سقراط”. لكن المؤكد أيضاً هو أن زرادشت تحول إلى الشخصية الأبرز في فلسفة نيتشه، وكثير ممن يعرفون الفيلسوف الألماني يعرفونه من خلال ذلك الحكيم الفارسي الذي يقال أنه عاش في القرن السادس أو السابع قبل الميلاد، على خلاف بين المؤرخين. حوّل نيتشه زرادشت إلى نبي يقابل أنبياء الديانات الإبراهيمية وجعله يحاكيهم. وما يهمنا هنا هو اختياره لزرادشت تحديداً. غير أن ذلك الاختيار بما يتضمنه من توجه شرقي يقف في مقابل اختيار آخر، اختيار مقابل، تضمنه كتاب سابق لنيتشه. في كتاب “إنسان مفرط في إنسانيته” الذي سبق “هكذا تكلم زرادشت” بحوالي خمسة أعوام نجد نزوعاً مناقضاً تماماً للنزوع الشرقي. إنه النزوع إلى الغرب وما هو غربي في مقابل ما هو شرقي. يأتي ذلك في سياق حديث نيتشه عن الإسهام اليهودي في الحضارة الغربية. كتب الفيلسوف الألماني يقول إن اليهودي قد يكون “الاختراع البشري الأكثر إثارة للاشمئزاز” حين ينظر إليه من ناحية تعاملاته المالية، لكن اليهود يستحقون التسامح حين يتأمل المرء في معاناتهم وفي أنهم أنجبوا، بتعبير نيتشه، الإنسان الأكثر نبلاً (المسيح) والحكيم الأكثر طهارة (سبينوزا) والكتاب الأقوى (الكتاب المقدس)، وأنهم، وهذا هو بيت القصيد، أنقذوا أوروبا من “غيمة الحشود الآسيوية” في العصور الوسطى: “إنهم مفكرو اليهود الأحرار، علماؤهم وأطباؤهم هم الذين تمسكوا براية التنوير والاستقلال الروحي” أثناء العصور الوسطى...” ثم يلخص كل ذلك في عبارة توجز التعارض مع رأيه في “هكذا تكلم زرادشت” بقوله: “إذا كانت المسيحية قد فعلت كل ما يجعل الغرب شرقياً، فإن اليهودية ساعدت بصورة بارزة على جعله غربياً مرة أخرى”، ويوضح ذلك بالإشارة إلى أن ذلك حدث بربط أوروبا بموروثها اليوناني. وبغض النظر عن المغالطة التاريخية التي تهمش دور العرب المسلمين في القيام بذلك الدور على نحو يتجاوز دور اليهود بكثير (التهميش الذي سيتكرر لاحقاً لدى هايدغر وغيره)، فإن إعلاء نيتشه من الاتجاه اليوناني بوصفه يمثل حقيقة أوروبا أو جوهرها، كما سيقول هوسرل لاحقاً، يختلف بصورة حادة عن نزوعه إلى الموروث الشرقي في الكتاب اللاحق “هكذا تكلم زرادشت”. فهو هنا يستدعي العنصر الآسيوي الذي سبق أن عبر عن خشيته منه، ما يعني أن الفيلسوف الألماني كان في مفترق طرق بين نزعتين، آسيوية/فارسية، وأوروبية/يونانية. من خلال النزوع الآسيوي الفارسي أعلن نيتشه موت الإله، الإعلان الشهير الذي هبط به زرادشت كما يهبط الأنبياء من جبالهم، مخبراً الناس، مبشراً ومنذراً في الوقت نفسه، كما ستعبر كتب لاحقة لفيلسوف الحداثة. التبشير لأن انعتاقاً قد تحقق من ربقة الميتافيزيقا التي سادت العالم حقباً طويلة. هنا نجد نيتشه الذي عرف بذلك التبشير، بتلك النغمة الجذلة أو الحكمة المبتهجة، فهو في نظر الكثيرين النبي المبشر بالإنسان، الإنسان الأعلى؛ هو الفيلسوف الذي دعا إلى سيادة الإنسان في عالم أرضي خالٍ من الآلهة. في “العلم المرح” يعبر نيتشه عن الابتهاج بالتحول في فقرة بعنوان “ما تعنيه بهجتنا” حين يصف موت الإله بأنه “الحدث الأعظم لدينا”، ويوضح ذلك في موضع تالٍ من الفقرة نفسها حين يشير إلى موقف الفلاسفة: “بالفعل، نشعر نحن الفلاسفة و’الأرواح الحرة‘ كما لو أن فجراً جديداً أشع علينا حين تلقينا الأخبار بأن ’الإله القديم قد مات‘؛ فاضت قلوبنا بالامتنان، بالدهشة، بالتحفز، بالتوقع”. غير أن هذه الحماسة تبدأ بالخفوت حين يمعن نيتشه النظر في ما يسميه القناعات التي لابد منها، القناعات أو الفرضيات المسبقة التي لا يستطيع حتى العلم التخلص منها: “لا يوجد علم ’بدون فرضيات مسبقة‘“. فهذه الملاحظة العميقة تحمل الحجاج إلى نتيجة تتصل بالدين المرتبط حتماً بالميتافيزيقا أو بوجود الإله. يقول نيتشه بنغمة تحمل الأسى إن الميتافيزيقا تلاحق الفلاسفة أيضاً وليس أهل العلم التجريبي فحسب: لكن ما أستطيع رؤيته سيكون واضحاً، أي أن إيماننا بالعلم يتكئ دائماً على ’إيمان ميتافيزيقي‘ – حتى نحن الذين نعلم في هذا العصر، نحن الذين بلا آلهة والمعادين للميتافيزيقا، مازلنا نقتبس نارنا من الشعلة التي أوقدتها عقيدة عمرها ألف عام، العقيدة المسيحية، التي كانت أيضاً عقيدة أفلاطون، الاعتقاد بأن الله هو الحقيقة، وأن الحقيقة مقدسة... لا شك أن نيتشه لا يقول هذا مقتنعاً بأنه الوضع الصحيح، أي بأنه ما ينبغي حدوثه، وإنما من حيث هو تقرير واقع الحال التي هو بسبيل تغييرها أو الدعوة إلى تغييرها. لكن الإحساس بالأزمة حاد، ويظل حاداً في محاولات نيتشه اقتلاع الميتافيزيقا من جذورها. لغة الأسى المنبعثة من الاعتراف بتجذر الميتافيزيقا تحمل حرارة التأزم أو الشعور بمأزق حان وقت تجاوزه. التأزم الذي تحمله عبارات نيتشه يتضاعف حين نتذكر مسألة الشرق والغرب، زرادشت وسقراط، فاختيار زرادشت يحمل مؤشرات تأزم حضاري أو انسداد أفق هو الأفق الأوروبي اليوناني المثقل، كما يقول نيتشه، بالميتافيزيقا الدينية المسيحية بصفة خاصة. ذلك التأزم يصل إلى ذات الفيلسوف نفسها، تلك الذات التي عانت كثيراً من العزلة، من الوحدة، والغربة عن محيطه وانتهت به إلى مصحة عقلية. في إحدى رسائله اشتكى نيتشه من تلك العزلة الموحشة مقارناً نفسه بدانتي وسبينوزا ليجد الاختلاف واسعاً بينه وبينهم فقد كانا “أفضل في تقبل قدر العزلة”. لكنه سرعان ما يستدرك بأن طريقة تفكيرهما مختلفة مقارنة بطريقة تفكيره هو، طريقة تفكيرهما “التي جعلت العزلة محتملة”. أحد الأسباب الضمنية هي أن كليهما، مثل كثيرين آخرين، “كان لهما ’إله‘ بصورة أو بأخرى” فلم يعيشا العزلة التي عاشها هو، ليخلص من ذلك إلى أن “حياتي الآن تكمن في الرغبة بأن كل تلك الأشياء مختلفة عما أراها عليه، وأن شخصاً ما سيجعلني أرى كل ’حقائقي‘ تبدو غير قابلة للتصديق...” تلك العزلة، كما يقول أحد أشهر محرري ومترجمي نيتشه، الفيلسوف الألماني – الأمريكي والتر كوفمان، هي مفتاح كتابه الأشهر “هكذا تحدث زرادشت”: “إن المفتاح المفرد والأهم لـ ’زرادشت‘ هي أنه عمل أنتجه إنسان في عزلة تامة”. هوسرل: التمركز الأوروبي بالنسبة لهوسرل تمثلت الأزمة في تراجع الفلسفة وتطور العلم باتجاه مدمر للروح الفلسفية ومعها الهوية الأوروبية بجذورها اليونانية. لقد تأمل الفيلسوف الألماني تاريخ الفلسفة في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين فلم يرها تتطور إلى الأفضل كما يفترض بها حسب ما بشر به نيتشه وما تضمنه قبل ذلك التصور التنويري لحركة الحضارة بما فيها من فكر وعلوم وثقافة عامة وإنما رأى انتكاسة تمثلت في انحراف عما رأى أنه الطريق القويم للفلسفة. بل إن “أزمة العلوم الإنسانية” لم تكن بالنسبة لهوسرل حالة من الرؤية الضبابية كما يريدنا مفكرون مثل إدغار موران وزيغمونت باومان وغيرهما أن نرى طبيعة التأزم وإنما ما هو أشد من ذلك وأكثر وضوحاً؛ رأى حالة من الانحراف، الضياع، أو الضلال وفقدان الهوية. يقول الفيلسوف الألماني “ما تشير إليه أزمة العلم ليس أقل من أن شخصيته العلمية، الكيفية التي حدد بها مهمته وطور منهجه من أجلها، صارت مشكوكاً فيها”. ويضيف أن “ذلك قد يصدق على الفلسفة التي خضعت في عصرنا للشك، واللاعقلانية، والتصوف”. في محاضرته الشهيرة “الفلسفة وأزمة الإنسان الأوروبي” المنشورة في كتابه “أزمة العلوم الأوروبية” يعلن هوسرل: “إنني، أيضاً، متأكد تماماً من أن أزمة الإنسان الأوروبي تعود في جذورها إلى لاعقلانية خاطئة”. تلك اللاعقلانية كانت منطلق هوسرل في نقده لوضع العلوم الإنسانية وما آلت إليه الفلسفة بصفة خاصة. ومع أن رؤيته أكثر تفاؤلاً مما تبدو في البداية – فهو تفاؤل ضروري لكي يكتسب مشروعه الفلسفي قيمته بوصفه منقذاً من الأزمة – فإن ذلك لا يقلل من قتامة الصورة التي رآها أمامه. إحدى المشكلات، أو ربما المشكلة الرئيسة التي رآها فيلسوف الظاهراتية، كانت في عدم تمكن الفلسفة من الوصول إلى المعرفة اليقينية واتكاؤها على العالم الموضوعي، أي العالم خارج الذات، بوصفه مصدراً للحقيقة. ذلك المنهج “الموضوعي” كان عائقاً أمام وصول الفلسفة إلى الحقيقة. كان ينبغي أن تصدر المعرفة عن الذات أو عن وعي الذات بالعالم عبر المنهج الفينومينولوجي أو الظاهراتي. وصف هوسرل منهجه أيضاً بالمتعالي (ترانسندنتالي) فهي الظاهراتية الترانسندنتالية أو المتعالية، والتعالي يشير إلى تجاوز العالم الحسي أو الموضوعي، أي الواقع خارج الذات، والذي تستطيع الذات الوصول إليه فقط من خلال عملية الوعي به، أي بوصفه ظاهرة أي عالماً يتمظهر في عملية الوعي. ما يهمنا هنا هو مفهوم التعالي الذي لم يقصد به هوسرل العالم الماورائي الذي تؤمن به الأديان، عالم الغيب، أي أننا أمام مفارقة تكمن في توظيف مفردة غيبية في أساسها الدلالي للإشارة إلى عملية علمانية تماماً. التعالي هنا يأتي بمعنى التجاوز العلماني، أي قدرة الوعي على التجاوز إلى عالم الحس وليس إلى ما وراءه عبر عملية الوعي بذلك العالم، العملية التي تنهض الفلسفة الظاهراتية على تحليلها، أي كيف تتم. غير أن مفهوم التعالي التقى عند غير هوسرل بالمفهوم الأصلي أو الروحاني، المفهوم الديني غير المعلمن. نجد ذلك عند الفيلسوف البلجيكي لوي دوبريه الذي يقرأ أزمة الثقافة الأوروبية من هذه الزاوية. ودوبريه فيلسوف ظاهراتي، ينطلق من فلسفة هوسرل لكنه يأخذ تلك الفلسفة في اتجاه مختلف لاسيما في قراءته لأزمة الحضارة الغربية: “تتأسس الأزمة”، يقول دوبريه، “حين لا يستطيع الإنسان أن يتعرف على المثل الأساسية في ثقافة المجتمع الذي ينتمي إليه ولكنه مع ذلك، سواء بوعي أو بلا وعي، يستمر في ولائه الأساسي لتلك المثل”. تلك الأزمة تتمظهر حسب دوبريه في ما أشار إليه هيغل بالاغتراب الثقافي مضيفاً: “معظمنا يألف بأقدار متفاوتة ذلك الشعور المقلق، مع أننا نظل غير مدركين للعوامل التي أتت به إلى وعينا الثقافي”. في مقالته المشار إليها هنا يربط دوبريه ذلك الشعور المقلق بجذور دينية: “في الصفحات التالية سأجادل بأن مصدر قلقنا الحالي ديني”، لكنه يسارع إلى توضيح أن ما يقصده ليس المعتقدات والمؤسسات الدينية الموجودة حالياً. “استعمالي لمفردة ’ديني‘ هنا ستشير فقط إلى حضور البعد المتعالي في الوجود الإنساني والحاجة إليه، بغض النظر عن الشكل الذي يعبر عنه من خلاله”. وهو حريص لذلك السبب على القول بأنه نتيجة لذلك لا يرى “أن الإحياء البسيط للمعتقدات القديمة والمؤسسات التقليدية بحد ذاته حل لأي من المشكلات المعاصرة”. أما السبب فهو أن تلك المعتقدات والمؤسسات جزء من المشكلة، لأنها “تعاني الكثير تحت وطأة أزمة العلمنة مثلما يعاني المجتمع العلماني نفسه”. بل إن تلك المعتقدات والمؤسسات “صارت عائقاً على الطريق نحو تعالٍ حقيقي”. أما تنامي هذا الوضع فكان، حسب دوبريه، نتيجة لكون الفلسفة قد دشنت عصراً تمكن فيه الإنسان، بدعم من العلم اليوناني من ناحية، والمفهوم العبراني للإله، من ناحية أخرى، من أن “يعبث بعالم كان ينظر إليه حتى ذلك العصر بأنه مقدس”. يستشهد دوبريه بالفيلسوف الإنجليزي ولفرد وايتهد في تأكيد الأخير على أن النظر إلى العالم المادي بوصفه مستقلاً فصله نهائياً عن عالم القيم. انتهت قداسة الأشياء بانسحاب الإله عن العالم ولم تعد عناصر الطبيعة وجمالها الفني ينظر إليه بشيء من التبجيل. فكرة الإله، كما يؤكد دوبريه، هي “الأساس لنظامنا القيمي، أما عدمية عصرنا، أي التخلي الواعي عن القيم التقليدية، فهي المرحلة النهائية لتشظي ذلك الأساس”. ما يؤمن به المسيحيون الغربيون ليس، حسب دوبريه، هو الإله الحقيقي وإنما هو إله تقليدي نعبده عبادة شكلية. لكن القناع، كما يؤكد الفيلسوف البلجيكي، خُلع الآن “وخلفه تفغر الهاوية فاهها”. تلك هي الأزمة في أجلى صورها.