قراءة في فيلم فرانكشتاين..

حين تحول العزلة والخوف الكائن إلى وحش.

في عام 1818 كتبت الروائية “ماري شيلي” روايتها “فرانكشتاين” والتي تعتبر من أوائل أعمال الخيال العلمي، وتروي قصة العالم “فيكتور فرانكشتاين” الذي يصاب بالغرور ويقرر أن يتحدى الطبيعة، في محاولة لخلق كائن دون روح، لكنه لا يفعل أكثر من صناعة كائن غريب من بقايا الجثث، كائن مثير للاشمئزاز حتى من قبل صانعه، ليتحول من كائن بريء إلى وحش يسعى للانتقام من صانعه. وتعرض على منصة نتفليكس هذا الأسبوع نسخة أخرى من الرواية وهو ليس الفيلم الأول الذي تناول قصة فرانكشتاين، لكن لكل مخرج رؤيته والزاوية التي يركز عليها من القصة لصناعة الفيلم، وقد قام المخرج (غييرمو ديل تورو) بإخراج وكتابة سيناريو هذه النسخة المدهشة بصرياً، من بطولة (أوسكار إيزاك) في دور فيكتور و(جاكوب ايلوردي) في دور الكائن المخلوق. و الفيلم إعادة قراءة بصريّة وتفسيريّة للرواية مع المحافظة على بعض المحاور الأصليّة، الفيلم يحكى قصة الدكتور Victor Frankenstein حيث ينطلق من طموح علمي متوحّش إلى تداعيات إنسانية أخلاقية، نفسية وجمالية، حيث يقدم فرانكشتاين بطابع مركّب ما بين العبقري والطاغية، بين الشغف العلمي والندم، أما الأداء المبهر فكان من نصيب المخلوق بذلك البعد الإنساني الذي يجعله ليس وحشاً فقط بل ضحية ومرآة للإنسانية. نجح الفيلم نجاحاً بصرياً كبيراً فالصور والألوان في الفيلم آسرة وتعبر عن الحدث مما جعل منه تجربة سينمائية غنية، فالمعدات الضخمة و الجثث و القطع الميكانيكيّة، كلها تُشعر بأننا أمام تجربة علميّة متهوّرة، والتساؤل الذي لا يغيب هو ما هو مصيرنا عندما نلعب دور الإله؟ و ما الذي يُعرّف الإنسانية؟ هل هو الجسد أم العقل؟ أم أنه الشعور والترابط الاجتماعي؟ وكيف من الممكن أن تحول العزلة والإهمال والخوف أي كائن إلى وحش؟. فرانكشتاين الخالق يبدأ باعتباره إنساناً طموحاً لكن غروره العلمي يأخذه إلى البعيد فيسعى للوصول إلى نسخة إنسانية لا تفنى ليكون سببا في صناعة مسخ لا يعرف مصيره، وهنا تتحول العلاقة إلى علاقة أب/ابن، مبدِع/مبدَع، المسيطر/المسيَّر إليه، وكأنه يساءل الطموح العلمي هل العلم بلا حدود؟ ما هي الحدود الأخلاقية للطموح العلمي ؟ لقد أراد فيكتور أن يكون إلهاً، لكنّه لم يستطع أن يتحمّل ثقل الألوهية. ليكتشف فيكتور أن الحياة التي منحها ليست هبةً بل لعنة، وأن الخلود الذي طمح إليه لا يحمل المجد بل يزرع الألم في ما خُلق منه، أما المخلوق الذي وُلد من بقايا الموتى فلم يطلب سوى الرحمة، لا من الناس بل من الوجود نفسه، لم يكن يبحث عن معنى للحياة بل عن معنى للموت، عن نهاية تبرّر بدايته القسرية في عزلته الطويلة ليدرك أن الموت هو اكتمال التجربة الإنسانية، وأن الحياة من غير موت ليست سوى امتدادٍ للخطيئة الأولى. الفيلم ممتع بالرغم من مدة عرضه التي تتجاوز الساعتين، يملؤك بالأسئلة حول الإنسان هذا الكائن المتعجرف والمندفع، والذي طالما شُغل بالخلود لكنه لم يجد مفراً من الموت، الفيلم باختصار يلخص هذا السعي المحموم للحياة والتي تنتهي بالموت أو الهاوية .. سعي المخلوق للحصول على أجوبة ومحاولاته البائسة لأن يكون إنسانا والتي تبوء جميعها بالفشل. كما يصور بدايات فيكتور وطفولته، وتحوله من كائن محبوب إلى وحش لديه غاية خلق كائن لا تطاله يد الموت، وبعد الكثير من الجهد يصنع معجزته، لكنه يجد نفسه عالقا فيما صنع فيحاول بشتى الطرق تخليص نفسه دون جدوى. هناك الكثير من المشاهد المؤثرة بعمق في الفيلم، لكن أجمل اللحظات هي تلك التي احتضن فيها الرجل العجوز المخلوق وهي لحظة محورية في الفيلم، لأنه احتضنه وقبله كما هو، وقام بتعليمه ورعايته، وهو الحدث الذي يعزز قيمة اختيار المصير حتى لدى الكائن المخلوق من بقايا آدمية أخرى، الاختيار ما بين الكراهية والغضب والانتقام، أو الحب والسلام، ولا ننسى المشاهد التي تلاشت فيها الحدود ما بين الجمال والقبح ليكونا شيئا واحدا عند عناقه للأنثى الوحيدة التي رأت داخل الوحش ما هو أبعد من مجرد كائن ملفق. في مشهد النهاية، يلتقي الخالق بمخلوقه على حافة الفناء حيث تتهاوى الحدود بين الخطيئة والغفران كلاهما وحيد و كلاهما نادم و يتوق إلى النهاية، الخالق الذي أراد أن يهزم الموت يسعى إليه خلاصاً من ذنبه، والمخلوق الذي حُرم من الفناء يتوسّل الموت كعتقٍ من وجودٍ لم يختره، وفي لحظة الغفران الأخيرة يتساويان إنسانياً؛ الأب يغفر لابنه لأنه لم يعرف الحب حين خلقه، والابن يغفر لأبيه لأنه لم يختر الحياة التي مُنحت له، هكذا يُعيد “ديل تورو” صياغة الأسطورة، لا كرواية عن الوحش، بل كتأمل في الإنسان و هشاشته، في جنونه حين يحاول أن يكون إلهاً، وفي وجعه حين يدرك أن الخلود جحيمٌ لا ينتهي، الخلق بلا حبّ لعنة، والموت الذي يُمنح برحمة هو الخلق الحقيقي الأخير، وفي تلك اللحظة الصامتة بين الأب والابن، بين الحياة والموت، نسمع همس الحقيقة التي يهرب منها الجميع أن الفناء أحياناً أسمى أشكال الوجود، وأن الغفران وحده هو الخلود الممكن.