التعليم ورؤية 2030..

الـروح الـجـديـدة.

1 - مقدمة في عام 1985 أصدر الدكتور عبدالعزيز عبدالله الجلال إبان عمله مديرا لقطاع شؤون الإنسان والبيئة بالأمانة العامة لدول مجلس التعاون الخليجي كتابا عنوانه «تربية اليسر وتخلف التنمية» يمثل مدخلا لدراسة النظام التربوي في أقطار الجزيرة العربية المنتجة للنفط. والكتاب في الأصل نتيجة المشروع الدراسي لندوة التنمية لأقطار الجزيرة العربية المنتجة للنفط. وبالرغم من أهمية الكتاب إلا أنه غير مقروء، ولم يطبع مرة أخرى. أنني أزعم بأنه أهم كتاب صدر عن العلاقة بين التربية والتنمية منذ ذلك الوقت، وأنه سيظل في قائمة القراءات الضرورية للمهتمين بالعلاقة بين التنمية والتربية. فالأفكار المطروحة فيه لها أهمية مركزية في الدفع المتبادل بين التربية والتنمية. إنه كتاب رائد، بسبب دفاعه القوي وغير المسبوق عن أن قياس التنمية بالنمو الاقتصادي المعبر عنه بزيادة متوسط الدخل الفردي ما هو إلا تغطية على خفايا الموضوع. يرى الكتاب أن التنمية لا تعني إشباع بعد واحد من حاجات الإنسان الأساسية كالإشباع المادي المتمثل في الغذاء والسكن والصحة والتعليم والعمل، بل أكثر من ذلك، أي إشباع الجوانب المعنوية كالحاجة إلى تقدير الذات بالعمل والإنتاج، وحرية التعبير، وحرية التفكير، وروح المواطنة إلى آخر ضرورات الانتماء إلى العصر الحديث. إن القضايا التي طرحها الدكتور الجلال تعرض اليوم تحت ضوء جديد، ويعود هذا إلى رؤية 2030 وإلى الانفتاح الذي نعيشه، مما يستدعي من جديد القضايا الملحة التي شدد عليها كتاب الجلال، وتعني منذ ذلك الوقت العلاقة بين التعليم وبين التنمية التي حللها بمفاهيم تربوية تشير إلى التحديث بوصفه تحديثا للموارد وتحويلها إلى رأس مال، ونمو القوى الإنتاجية، وتشكيل الهوية الوطنية، ودعم وتنمية أشكال العيش المدني. لذلك كان لابد من التذكير بهذه العلاقة، ومؤشرات تحققها. فالاقتصاديون لا يهتمون بالتربية، والتربويون بدورهم لا يهتمون بالتنمية الاقتصادية، ويبقى دور المواطنين. وهكذا فأنا أقدم على عمل لا يخصني منه سوى أنني مواطن لا يريد أن يستسلم لا لأوهام الاقتصاديين ولا لأوهام التربويين. 2 – الروح الجديدة إن من حسن الحظ أن كل جيل من الأجيال يحاول أن يضفي صورا جديدة على أمانيه واحلامه، وفي الصميم من أماني كل جيل وأحلامه أن يحاول تشكيل التعليم في زمنه بما يوافق الزمن الذي يعيش فيه. ولعل العلامة المميزة لمجتمعنا الآن إيمانه بجدوى التعليم، ووعيه وإدراكه بأنه يجب أن يكون وسيلة لتدريب أبنائه على قيم العصر الحديث الذي ينتمي إليه. لقد بدأ الآباء يُعْنون بقضايا تربوية لم يكن يُعنى بها سوى التربويين. وقد ترتب على ما يطمح إليه هؤلاء الآباء تسرّبٌ من التعليم الحكومي في اتجاه التعليم الأهلي لاسيما المدارس التي تُعنى بقيم العصر الحديث، وتسرّبٌ من الداخل إلى الخارج لكي يتعلم أبناؤهم في مؤسسات علمية خارجية. في الغالب تعلم هؤلاء الآباء في التعليم الحكومي، وحصلوا على درجات عالية في الاختبارات، والتحقوا بالتعليم العالي. هؤلاء الذين تعلموا تعليما لا يركز على التفكير والنقد واستخدام العقل وقيم العصر هم الذين يناقشون مشاكل التعليم الآن. وإني لأذهب أن نقدهم نتج عن إدراكهم المفاجئ أن ما تعلموه في المدرسة لم يكن كافيا، ونقدهم التعليم يعود فيما أرى إلى السنين التي تعلموا فيها، كما لو أنهم يقولون من حق أبنائنا أن يتعلموا أفضل مما تعلمنا. تعكس هذه الروح الجديدة الوعي الذي بدأ يشيع في مجتمعنا، وضاعف من هذه الروح الأزمة الطويلة التي عانى منها التعليم الحكومي، وهي أزمة يتطلب التغلب عليها رؤية جديدة للتعليم يضفي فيها الجيل الجديد أمانيه التي تشكل مؤسسته التعليمية التي سيتعلم فيها.   كيف يمكن أن يُحول الحديث عن تحديث مجتمعنا من حديث نظري إلى برنامج عمل؟ يتطلب هذا الكثير من العمل المضني. لكي يتبسّط التحديث يجب أن تُفهم الصعوبات الكامنة فيه، ثم يُؤتى بالحلول العملية المبتكرة. ولأنني هنا معنى بالأفكار فيكفي أن أقول إن التعليم طاقة متطورة، وإذا ما أريد لهذه الطاقة أن تعبّر عن نفسها فلا بد لها من هدف كأي نوع من القوة؛ ولهذا يلزم حشد هذه القوة من أجل تحديث مجتمعنا. إن دمج الوسائل والأدوات والهدف هو ما سيبدع تعليما جديد يرشدنا إلى المزج بين الغاية والوسيلة. الغاية هي أن يتبلور عند المتعلم مفهوم التحديث. لا يوجد أفضل من التعليم لكي يحول أفكار التحديث إلى رأس مال اجتماعي. وقد أعطى التاريخ مكانة للتعليم جعلت أغلب المفكرين والفلاسفة يعرضون آراءهم في التعليم لأنهم يرونه مدخلا إلى تحديث المجتمعات. وحتى في وجود النقد الذي وجّه إلى التعليم من كون المدرسة تعيد إنتاج التفاوت الاجتماعي، وأن ثقافتها هي ثقافة الطبقة المهيمنة، وأنه لا يوجد أي مبرر عقلاني في أن تختار المدرسة ثقافة لتعطيها شرعية على حساب أخرى. أقول رغم كل هذا النقد، واستنادا إلى ما نعرفه من تجارب المجتمعات التاريخية فإن التعليم سيظل قائما كما هو في أي تصور للحداثة والتحديث، وأن نقد المدرسة هو اعتراف بأهميتها في غرس البنيات العقلية. لكن إذا كنا نعلق أملا على أن التعليم من أجل التحديث سيغير مجتمعنا إلى الأفضل، فإن هذا الأمل مرتبط بشرطين الأول هو أن يتولى الجيل نفسه ما ينبغي له أن يتعلمه في المدرسة، ويتوافق مع عصره؛ لأن التاريخ هو بمعنى ما هو تقدم القيم (العروي) وثانيهما هو الانتباه إلى خطر الأفكار التي كانت جيدة في وقتها ثم لم تعد نافعة في وقت آخر لأنها استنفدت أغراضها. يجب أن يتجاوز التعليم عائقين هما تربية الأسرة وتربية السلطة (إيمانويل كنت) فأولياء أمور المتعلمين يفكرون في العائلة التي ينتمون إليها، والسلطة تفكر في سلطتها. يترتب على هذا أن هدف العائلة والسلطة ليس الخير الكلي والكمال التي تكون الإنسانية مهيأة له، وتملك استعدادات لأجله، بل من أجل مصالح الأسرة والسلطة. فضلا عن ذلك يجب أن يرعى التعليم المتعلم حتى بعد أن يغادر التعليم، ويصير راشدا. أقصد أن يحول التعليم بينه وبين أن يستخدم عقله فيما بعد استخداما يضره هو أو يضر الآخرين مهما تكن عقائد هؤلاء الآخرين أو أعراقهم أو ثقافتهم. يولد الناس متساويين. هذا حق، ومهمتهم المشتركة أن يكونوا بشرا. وهذا حق آخر. ولا يعني التعليم أن يتخرج الرجال والنساء ليعملوا على حساب الحياة التي يعيشونها. ليس المطلوب من التعليم أن يخرّج لسوق العمل كما هي الموضة الآن؛ بل أن يخرّج إنسانا؛ وبعبارة جان جاك روسو فالحياة التي أريد أن ألقّنه (تلميذي) إياها. وحين يخرج من بين يدي لن يكون قاضيا أو جنديا ، بل سيكون إنسانا قبل كل شيء، بكل ما ينبغي أن يكونه الإنسان، وسيعرف كيف يكونه على الوجه الصحيح، ومهما غيرت صروف الأيام من وضعه، فسيكون دائما في وضعه الحق. إن القول -يقول إدوارد سعيد- إن شخصا ما متعلّم أو معلّم هو قول له علاقة بالعقل ، وبالقيم الفكرية والأخلاقية، وبسيرورة البحث والنقاش والحوار مما لا يصادفه الفرد خارج المدرسة، والفكرة هي أن تشكل المدارس والجامعات عقول الشباب والشابات، وأن تعدهم للحياة. 3 – مجالات التعلم سأسمي فعل المدرسة الأساسي بـالتعلم على الغرابة؛ فما هو مطلوب من المدرسة هو أن تغير الفرد. أي أن المدرسة ليست الغريب، ولا الغريب ما تقدمه من معارف وقيم ومهارات، بل الغريب هو المتعلم منذ اللحظة الأولى التي يلتحق بالمدرسة. غريب لأن عليه أن يغير عاداته وتقاليده التي حمّلتها إياه الأسرة والمجتمع وحملها معه إلى المدرسة. عليه أن يتأقلم مع المدرسة، وأن يعزز ثقافته، وأن يجهد نفسه لكي يكن مألوفا للمدرسة. عليه أن يتمرن في ساحاتها وملاعبها واجتماعاتها ونشاطاتها، وحين يصل إلى نهاية تكوينه عندئذ لا يكون غريبا أمام المدرسة. من الممكن أن أقرأ غرابة الفرد وهو يلتحق بالمدرسة بقراءة معكوسة لأسطورة الكهف عند أفلاطون. فالمدرسة هي الكهف. والمؤكد أن الفرد الذي يخرج من الكهف بعد إتمام تكوينه سيكون غريبا في نظر أفراد المجتمع الذين لم يدخلوا الكهف. بهذا المعنى يتوجب على الفرد ألا يتأقلم مع الأفراد بل يجعلهم يتأقلمون، وأن يستخدم كل ما تعلمه في الكهف/المدرسة لكي يغيرهم. ربما يعاب على التعليم من أجل الغرابة أن المدرسة قد تطمس جذور المجتمع الثقافية الذي يتكون في جوهره من الثقافة. لكن إذا كانت الغرابة ليست من المدرسة إنما من الفرد الذي يلتحق بها؛ فذلك يعني أن المدرسة تُعنَى بالقيم الحديثة. أي ما هو مشترك بين البشر في العصر الحديث. ويبدو لي أن مجالات التعلم التي وعدنا بها معهد اليونسكو في التربية (1986) فهي مجالات أساسية للتعلم كالاتصال أي المشاركة في الحياة وتبادل الأفكار مع الآخرين، والزمن أي الوعي بأهمية الزمن، وتقبل التغيير، وعدم تحكم الماضي في تشكيل الحاضر أو الحد من تطوير المستقبل، والجسم السليم أي التنمية البدنية، وارتباطها الوثيق ببناء الشخصية، والمكان أي تنمية الوعي بالمكان المحسوس والثقافي والحضاري الذي يعيشه ويؤثر فيه ويتأثر به. وإذا كان الزمن هو البعد الرأسي لخبرة الإنسان فإن المكان هو البعد الأفقي. وكذلك الفن أي تنمية الإدراك والتذوق والقدرة على التخييل والتصور وتقدير القيم الجمالية وأساليب التعبير التي تعكسها الفنون المختلفة. والمواطنة أي فهم الفرد لدوره في المجتمع وتنمية سلوكياته الإيجابية كمواطن وتنمية مشاعره وتفكيره تجاه وطنه، والأخلاق أي التنمية الأخلاقية والقيمية لكي يؤمن الإنسان بالإيثار والعقلانية والإنسانية، ثم التكنولوجيا أي الوعي بالتقنية وحسن استخدامها وتوافقها مع قيم الفرد والمجتمع. وأخير الروح العلمية أي أن يحل التفكير العلمي محل التفكير الخرافي والأسطوري. 4 – التسامح والتعايش هناك مكانان يستطيع فيهما الأطفال أن يتعلموا. هذان المكانان هما البيت والمدرسة. إذا تعلم الطفل في البيت فستسْهل مهمة المدرسة فيما بعد. لكن (إذا) الشرطية هذه خطرة أكثر مما ينبغي، ويجب أن يضمن مجتمعنا أن أطفاله سيتعلمون قيم العصر الذي ينتمون إليه كالحرية والعدالة والمساواة. والمدرسة هي المكان لضروري لتعليم قيم العصر؛ لأنها تلازم مراحل نمو الطفل المحدد قبلا من الأمم المتحدة بثمانية عشر عاما؛ أي تضم التعليم الأساسي والثانوي.   غير أن البيت لا يستطيع وحده أن يعلم أطفاله؛ فالتسامح والتعايش –على سبيل المثال-يكونان بين الناس، وإذا لم يكونا إلا في إطار الأسرة فسيصبحان ضعيفين لا يعول عليهما. فالبيت الناجح في تعليم التسامح والتعايش لا يعوض فشل المدرسة وقصورها، والمجتمع لا يمكنه أن يعول على البيت وحده لتعليم قيم العصر الذي ينتمي إليه، ولا بد له أن يوفر سبل أخرى أفضلها المدرسة. لا يعني الفشل في تعلّم قيم العصر أن الأفراد لن يعيشوا؛ ذلك أن جزءا من المجتمع العربي الآن يعيش بدون قيم العصر الحديث. لكن هؤلاء يتميزون بالانغلاق، وهم عبء ثقيل على من يريد أن يعيش قيم عصره، ومن المنطقي أن يشكلوا جزءا مزعجا. يجب أن يتعلم هؤلاء قيم العصر في المدرسة، وإذا لم يتعلموها في المدرسة فإن فرص تعلمهم خارجها قليلة جدا.  سيحاول هؤلاء الأفراد المفرّغون من قيم عصرهم أن يجدوا قيمهم الخاصة، وهي عادة ما تنتمي إلى عصور قديمة. والمثير هنا أنهم قد يلجؤون إلى طرق ملتوية يعبرون بها عن قيمهم، وقد يقاومون ما يظنون أنه يتنكّر لقيمهم الراسخة الجذور في الماضي. وأكثر من هذا قد يقسر هؤلاء الجزء الآخر من المجتمع على قيمهم، وإن لم يفعل فقد يلجؤون إلى العنف. إذا لم يجد هؤلاء مساعدة في مقتبل أعمارهم فسنتوقع منهم أكثر من هذا. فالمدرسة مسؤولة عن هؤلاء حين كانوا أطفالا. على أننا لن نحمل المدرسة ما لا تحتمل؛ ذلك أننا لا نقلل من مسؤولية الأطفال من أجل أن يتعلموا؛ فبدون استغراقهم في التعلم الشاق لن يكون تأثير المدرسة كاملا.   تساعد المدرسة الأطفال على أن يجدوا ما فقدوه في أسرهم، ولو اخترنا قيمة من قيم العصر الحديث مثالا على هذا فإن الطفل نادرا ما يتعلم قيمة التواصل مع الآخرين في نطاق الأسرة؛ إما لأنه وحيد، وإما لأنه يدخل في صراع مع والديه أو يدخل صراعا مع أخوته على الأشياء. لن تحل مشكلة التواصل على مستوى الأسرة؛ فالجماعة التي يمكن أن يتواصل معها الطفل توجد في المدرسة. هناك لن يتعامل الطفل مع الأطفال الذين يشبهونه فقط؛ إنما سيتعامل مع الأطفال المختلفين عنه، وإذ لم تعلم المدرسة التواصل فإن فرص تعلم الأطفال بعد ذلك ضعيفة. قد ينتج ضعف تواصل الأطفال عن أسباب لا يستطيعون أن يزيلوها من حياتهم؛ كالعيش غير الملائم للأسرة، والحرمان الاقتصادي.. إلخ، غير أن المدرسة تستطيع إزالة هذه الأسباب؛ أعني ألا تعترف المدرسة بما هو موجود خارجها من فوارق لا تنسب إلى الطبيعة؛ فالمدرسة تمثل الوحدة الكبرى في المجتمع، ويجب أن تعلم الأطفال كيف يتغلبون على الفوارق التي تعود إلى أسباب اجتماعية واقتصادية، فالأصل هو المساواة بين الأطفال؛ أنهم ولدوا متساويين. 5 – الإتقان والإثراء تحتل المدرسة عندي وضعا فريدا لكي يتعرف الأطفال على الحرية. ويتغلبوا على عدم المساواة التي ترتّبت على فوارق ليست طبيعية. ويجب أن تزوَّد المدارس بأفراد (معلمون، مديرون، إلخ ) مؤمنين بالحرية والعدالة والمساواة ومتحمسين لها. وإذا لم يكونوا كذلك فيجب أن يكونوا كذلك. إن التمكّن من شيء ما يكمن في القدرة على تعليمه، وحيث يتواصل المعلمون والمديرون مع الطلاب، وحيث يتواصل الطلاب مع بعضهم البعض بغض النظر عن أي فارق اجتماعي أو اقتصادي أو ثقافي فستنمو عندهم مهارة التواصل. لقد اخترت كلمة (مهارة) متعمدا؛ ذلك أن المدارس المبتغاة يجب أن تنتقل من تعليم الفهم العام الذي يخص جماعة إلى تعليم المهارة التي تخص الفرد. لا أدعو هنا إلى أن يطغى تعلم المهارة على تعلم الفهم العام، ولا أن يطغى تعلم الفهم العام على المهارة. يجب أن يكون هناك توازن بين الإتقان والإثراء، فلو أمكن إتقان الأطفال المهارات الأساسية في القراءة والكتابة والحساب والقيم العصرية، وكل ما يثريهم فذلك خير. لكن العمر قصير، ووقت المدرسة ليس طويلا، والمثري ليس قليلا؛ لذلك فالأفضل أن يتعلموا ما هو أساسي جدا، وما هو مثري لا فكاك منه. إن التوازي بين الإتقان والإثراء هي إحدى مهمات المدرسة الأساس. لا يمكن أن يتعلم الطفل بالقوة أو بالتهديد أو بالعقاب أو بالإخجال؛ لأن تأثير هذه ينقطع بزوال أداته؛ فالعقاب ينتهي أثره بزوال العصا، والإخجال بزوال الكلام وهكذا. لقد انتهى الزمن الذي كان يقال فيه « العلم يرفعهم، والعصا تنفعهم، ولولا سياط السلم ما حفظوا الكتب «. وإذا ما كان لهذه الأدوات نجاعة في وقت ما فلأنها تناسب التعلم القائم على الحفظ؛ إي إما أن يحفظ الطفل أو يعاقَب. وبما أن المقصود من التعلم هنا هو الفهم وليس الحفظ، فليس من المنطق أن يُحاسَب أحد الطفل أو يهدده أو يخْجله أو يعاقبه لأن فهمه لم يتطابق مع فهم هذا الواحد. لا يستخدم التعلم المبنى على الفهم العقاب إنما يشتغل على الحافز، ويجب أن تفترض المدارس وجود الحافز عند كل طفل لكي يتعلم. وإذا لم يكن موجودا فيجب أن توجده. لا يمكن للمدرسة أن تنجح بالمزيد من التهديدات والعقوبات والتوبيخ؛ إنما تنجح بمشاركة الطفل ليشبع حاجاته، وفي مقدمتها حاجته إلى أن يشبع عقله؛ أي أن تتيح له مجالات واسعة يستخدم عقله فيها. 6 – الملاءمة قبل أن يذهب الأطفال إلى المدرسة ارتبط تعلمهم بالمرح واللعب ورفع الصوت، إن لم يكن الصياح والصراخ. وقد شكلت هذه السلوكيات جزءا مهما من تجربتهم التعلّمية الناجحة. في مقابل هذا يُدرَّب المعلمون على إدارة الصف، وفي الصميم من إدارته هدوء الأطفال إلى حد أنك لا تسمع همسة كما وصف لي أحد المعلمين المهتمين بإدارة الصف. تحبط إدارة الصف القائمة على الضبط جزءا من تجربة الطفل المرتبطة بتعلمه، ولعل الصورة الرمزية لما ينتج عن هذا الضبط هو فوضى الانصراف نهاية اليوم الدراسي، والعنف الذي يحدث فيه إلى حد يستلزم وجود معلم. يجب أن تعرف المدرسة أن خارجها ليس هادئا ومنظما كالفصل، ويجب أن تنتبه إلى أنها بذلك توحي للأطفال بالتفاوت بين ما هو خارجها وما هو داخلها، وهذا لا يقل خطرا عن عدم ملاءمة موضوعات الكتاب المقرر لمحيط المدرسة الاجتماعي والثقافي. يبدأ نجاح الطفل في البيت كتقدير الأسرة له؛ كأن يكون متحدثا جيدا أو موهوبا في الرسم أو الكرة مقارنة بإخوته وأبناء عمومته وأنداده، كذلك يبدأ نجاح الطفل في المدرسة كأن يكون قائدا للفصل أو لاعبا موهوبا إلخ، وهذا نجاح جزئي لكنني أرى أن النجاح لا يُجزّأ. والمعنى أن المدرسة يجب ألا تفضل جزءا من نجاح الطفل على جزء آخر إنما تشغل نجاحه في جزء ما من عمله بوصفه حافزا. ولقد مر بي تجارب عديدة على العكس من هذا؛ تفضل فيها المدرسة النجاح في المستوى التحصيلي على النجاح في جانب النشاط. وبالرغم أن لا جزم بين التربويين على أن النجاح في النشاط يضمن النجاح الكامل إلا أن المدرسة يجب ألا تهمل ذلك. يتغير الأطفال بين حين وآخر، وينضجون يوما بعد يوم. ما يميز الأسرة أنها تنظر إلى تغير الطفل إلى الأحسن بعين الرضا. حين يخفق الطفل في أداء مهمة ما في البيت ثم ينجح فيها فيما بعد ففي الغالب لا تذكره الأسرة بإخفاقه إنما تمتدح نجاحه. يظل تقدير الأسرة لاسيما الأب والأم لطفلهما ثابتا، ويمدحانه عند الآخرين. وفي هذا السياق فما يجب أن تتعلمه المدرسة من هذا هو أن تؤمن بتغيّر الأطفال، وبنضجهم يوما بعد يوم؛ ذلك أنهم بشر، والبشر كما نعرف يحدث أن يكونوا جيدين وطيبين في لحظة، وسيئين وشريرين في لحظة أخرى. يجب أن تتقبلهم المدرسة في هذه اللحظات. وأكثر من هذا أن تتيح لهم فرص النجاح، وألا تذكرهم بماضيهم. والأهم هو ألا تنظر إلى إخفاقهم على أنه خطأ أخلاقي إنما محاولة لم تنجح. إن ما يدمر مهمة المدرسة هي أن تسبغ على محاولات الأطفال الفاشلة في التعلم قيمة أخلاقية سيئة. هناك منغصات تطارد الطفل في البيت في هيئة كلمات شائعة لكي توقف حب استطلاعه كملقوف وحِشري. وتتحول في بعض الأحيان إلى أحكام أخلاقية كـ (يدخّل عصّه فيما لا يخصه) وتتخذ أحيانا أخرى شكل حكم كـ (لا تتدخل فيما لا يعنيك، تلق ما لا يرضيك). تولّد ثقافة مثل هذه الكلمات والحِكَم ثقافة مُحْبطة. تُحْبط حس الطفل بفعاليته الشخصية، وبقواه الذاتية، وحريته، وفرديته. ففي كل طفل حفار لا يكف عن العمل في منجمه وهو حب الاستطلاع (الفضول) ولا ندري إلى أين يتجه به النفق الذي يحفره، وإذا كانت الأسرة لا تتفهم لضغط الثقافة الشعبية، فمن المناسب أن تتفهّم المدرسة هذا الحفار وهذا النفق. ولست أرى موضعا خير من هذا الموضع لأذكر بأن وأد حب الاستطلاع من الممارسات المؤسية والمثبّطات في المدرسة. ولا يمكن أن تقدر المدرسة حب لاستطلاع إلا حيث آمنت بأهمية الأسئلة التي تولد عنه. تكمن مسؤولية المدرسة في أن تؤدي دور الممرّن بالنسبة للأطفال. ولن يتسنى لها ذلك إلا بعد أن توجد مسافة بينها وبين الفرد وبينها وبين المجتمع. وأكثر من هذا أن تضع نفسها في خدمة الأطفال الذين سيكوّنون الجيل القادم. لا يجب ألا تتدخل السلطة آباء أو مربين أو مخططين أو راسمي السياسات التربوية في تعليم الأطفال لكي لا يشكلوا منهم ما يريدون هم، بل يتدخلوا في تجهيز المتعلم لما تريده منهم الحياة حين يكونون راشدين. 7 – قيم العصر الحديث إن أهم ما يمكن أن تدرب عليه المدرسة الأطفال هو أن يرفضوا الأفكار المسبقة التي تقف عائقا أمام أي ابتكار أو تجديد في مستقبل حياتهم. أحد هذه الأفكار المعيقة أن المجتمع قد تتخيل العلاقة مع الآخرين من خلال مفهوم الحدود كحدود الثقافة مثلا. وما يجب على المدرسة هو أن تدرب الأطفال على أن يهتكوا هذه الحدود الوهمية بتبنّي مفهوم العلاقة. يجب أن تنتبه المدرسة أن القيم قد تتحول إلى فخ. وهنا لن أقول جديدا لو قلت إن القيم تتبدل فقد قيل مئات المرات وبألسنة مختلفة، غير أن تبدل القيم لا يحدث بنفس السرعة، ولا أجد هنا أفضل من المشهد الذي يعرضه أحد الفلاسفة (بول ريكور) عن الكيفية التي تتبدل فيها القيم وتتغير سرعةً وإبطاءً. فالقيم تشبه ملامح مناظر طبيعية التي تشاهدها فيما لو أنك ركبت القطار. حيث تجلس تتنقل من المشاهد الأمامية إلى المشاهد التي تقع في مدى متوسط. ثم تلك المشاهد الخلفية التي تبدو لك وأنت الراكب القطار على أنها ثابتة قياسا على المشاهد الأمامية التي تراها تمر بصورة أسرع. وما يعادل المشاهد الخلفية من القيم هي ما يجب أن تركز عليه المدرسة كالحرية والعدل والمساواة والسعادة إلخ ما يشكل قيما خلفية لكل العصور. لقد عرضت مدارسنا قيم العصر الحديث بشكل سيء، واستغلت من بعض الجماعات أسوأ استغلال. وأكثر من ذلك استخدمتها أداة لمهاجمة العصر الحديث وأفكاره. أمام موقف كهذا يجب أن تدرك المدرسة أن قيم العصر الحديث المكبوتة الآن بحكم التهجّم عليها من قبل جماعة كانت مهيمنة هي القيم الأكثر حيوية فيما يتعلق بمستقبل الأطفال، وبالتالي مستقبل المجتمع السعودي. إنني أذهب إلى أبعد من هذا وهو أن حديث بعض الجماعات المهيمنة عن خصوصيتنا هو حديث مستهلك يستخدم استخداما اجتماعيا وليس معرفيا، ولن ينفع الأطفال في شيء في مستقبل حياتهم. نحن في أمس الحاجة إلى من يعيد النظر في القيم التي تعتبرها بعض الجماعات المهيمنة قيما سامية ومطلقة ليُماط اللثام عما تعرضت له من تنميقات بلاغية ومثالية. تكمن إعادةُ النظر في القيم في مساءلتها، مما يستدعي أن تكون الكتب المدرسية عرضا للتفكير المتباين عن الكون والإنسان والمعتقد. وأن تشتمل على نشاطات تعلمها على اشتغال فكري للتساؤل عن القيم يدفع الأطفال فيما بعد إلى أن يذهبوا بعيدا عما هو مكتوب ومقروء، وأن يتدربوا في المدرسة على أن ما يقرؤونه في الكتب عن القيم ليس إلا بداية البحث، وليس نهايته. القيم خطرة إذا ما استخدمت استخداما سيئا كأن يُموّه الدفاع عنها مشروعات مضمرة واستبداد جماعة وسيطرة، والحصول على امتيازات اجتماعية وثقافية. إن إحدى وسائل التمويه هذه هي أن يُدّعى أن القيم ترادف (ما يرضي الجماعة). ومن المناسب أن تعلم المدرسة الأطفال على ألا يثقوا في جماعة وألا يخضعوا لإرادة جماعة أو فرد، وأن يستعملوا عقولهم قبل أن يعتنقوا فكرة. أن تدربهم على أن يتجرؤوا في استخدام عقولهم شعار التنوير الشهير. 8 – بناء المعرفة الجديدة إن أحد أهم طرق المدرسة الحديثة هو أن تحط من قدر الذاكرة. بتعبير آخر يجب ألا تعتمد في تعليمها على الحفظ. ومن المفيد أن أذكر هنا بالكاهن المصري الذي نادى سولون اليوناني بعبارة اشتهرت فيما بعد. يا سولون. يا سولون. أنتم اليونانيون أطفال دائما. وليس لديكم أي شيخ. والإشارة هنا إلى فقدان الذاكرة التي يعيبها المصري على اليوناني. لكن فقدان الذاكرة هذا هو ما جعل اليونان في مقدمة الأمم القديمة إلى حد قيل فيه أن لا شيء لم يفكروا فيه. إن أي شيء نحفظه لا يؤدي أبدا إلى معرفة حقيقية، إنما يظل معلومة سطحية، من الممكن أن نعيد ما نحفظه، لكننا في الوقت نفسه ربما لم نفهمه، كما أننا لا نستطيع أن نعرفه في المضمون الأكثر تعقيدا لكلمة (يعرف)؛ فالحفظ لا يناسب تماما عملية بناء المعرفة الجديدة، لكنه مفيد في حالة رغبتنا في تعلم ما يعتقد بأنه حقيقة في نظر شخص ما. الناس ضحايا أسلافهم. وهم كتلة تتعلق بالتقاليد القديمة. وبإمكان المدرسة أن تحررهم؛ أي أن تدربهم على أن يكون لكل واحد منهم إرادته الخاصة. تستطيع المدرسة أن تكون إرادة الطفل من خلال تدريبه اجتماعيا. ويحضرني هنا الطفل الذي يتعلم اللغة بسبب إذعانه إلى الجماعة، لكن في مرحلة ما من عمره يتحرر من إذعانه كأن يكون شاعرا يتمرد ويثور على اللغة التي تعلمها. 9 – عن تعليم اللغة لن يغدو الطفل فردا مستقلا ما لم يتدرب في المدرسة على أن يكون له لغته الخاصة، وأن يتحرر من تكرار الآخرين ومحاكاتهم. وإذا كنت أذهب إلى هذا فإن من واجب المدرسة أن تعلم الطفل أن مصدر القيمة هو نفسه؛ أي أن الطفل-الراشد فيما بعد- يجب يستمده قيمته من ذاته. لن يغدو الطفل فردا مستقلا ما لم يتدرب في المدرسة على أن يكون له لغته الخاصة، وأن يتحرر من تكرار الآخرين ومحاكاتهم. إن لغة البوح التي يتعلمها الأطفال في حصص التعبير تحرمهم من اكتشاف العلاقات المحجوبة أو المفقودة بين الإنسان والإنسان، بين الإنسان وبين المكان المتعدد، بين الأطفال والكبار. وأكثر من ذلك تحجب تبادل الآراء في الحفلات العامة والخاصة، وفي مختلف التجمعات العامة، وتقضي على المبادلات العرضية المحضة، وردود الفعل على واقع الحياة والأحداث اليومية. وكما هو ديدن لغة البوح ينقسم الإنسان إلى حزين أو فرح، إلى سعيد أو شقي، والمكان إلى ساكن أو ضاج، والأشجار إلى عارية أو مورقة إلخ...   يروي فيرمان الفائز بجائزة نوبل في الفيزياء أن والده قال له أترى ذلك الطائر؟ إنه صداح سبنسر. يعلق فريمان بأنه كان يعرف أن أباه لا يعرف اسم الطير الحقيقي. ثم يضيف أبوه إلى ما قاله تستطيع أن تعرف اسم هذا الطائر بكل لغات العالم، ولكنك عندما تنتهي من ذلك، ستجد أنك لا تعرف مطلقا أي شيء عن الطائر. سيدور ما تعرفه فقط حول أفراد البشر في الأماكن المختلفة وما يسمون به الطائر. دعنا إذن ننظر إلى الطائر لنرى ماذا يفعله – فهذا هو المهم. ماذا تعني هذه الحكاية؟ أن نلاحظ يعني أن نحل الملاحظة محل الاستشهاد بالنصوص نثرا أو شعرا. يجب أن يتعلم الأطفال في المدرسة الملاحظة لأن ذلك يعني أن يفكروا بأنفسهم، وأن يصنعوا اعتراضاتهم على حقائق سارية المفعول. هذه هي بداية الثقافة العلمية.  وكما يقول هيجل لقد «كان ذلك عصرا عظيما عندما بدأ الإنسان يرى ويشعر ويتذوق بنفسه. بدأ يكرم الطبيعة، ويعتبر شهادة الحواس شيئا له أهميته ويقينيته، فلم يعد يسلم إلا بصحة ما تعرفه حواسه «. لماذا ألح على الملاحظة؟ لأن من شأن الملاحظة وتسجيل الملاحظات أن تدرب الأطفال على أن تكون مدلولات كلماتهم واضحة، وأن يستخدموا لغة دقيقة. لقد أكدت الدراسات الحديثة على أهمية اللغة في دعم التفكير وتسهيله، فبدلا من استخدام لغة المجاز سيستخدم الفرد لغة العلم. 10 – جمال الإحساس الفيزيائي ما مهمة مؤسسة تعليمية ذات جودة عالية؟ يسأل نيتشه ويجيب بالعودة بالشباب الذين أصبحت لغتهم همجية إلى الطريق القويم بالقوة وبالحزم المناسبين، ومخاطبتهم بصوت عال: خذوا لغتكم بجد! فالذي لا يشعر بهذا شعوره بواجب مقدس فهو لا يمتلك النواة المناسبة لثقافة راقية. من خلال استعمالكم للغتكم الأم يمكننا أن نرى القيمة التي تعطونها للفن الذي به تنظرون إليه، وكذا مدى صلتكم بالفن... على الأستاذ وهو يحلل الأعمال الأدبية سطْرا سطرا أن يرغم تلاميذه على التعبير عن نفس الفكرة مرة أخرى وبشكل أفضل، ولا يضع حدا لعمله قبل أن يصاب التلاميذ الأقل موهبة بالرعب من اللغة، ويبدي الأكثر موهبة تحمّسا نبيلا لها. يستدعي هذا طاقات كبيرة من التعبير إن لم يجهد الشاب في البحث عنها فإنها لن تظهر. مثل هذا التدريب مؤثر جدا في تشكيل لغة الشاب، ويتطلب صبرا ومثابرة وتدريب على الإحساس بالجمال، ومما يؤسف له أن المدرسة الحالية قصرت إحساس الفرد بالجمال على النصوص وعلى الرسم والنحت والموسيقى، بينما المسألة أشمل من ذلك حيث يمتد إلى كل المعرفة بما فيها العلوم الطبيعية. ولقد شرح أحد الحاصلين على جائزة نوبل (ستيفن وانبرغ) طبيعة الجمال في العلوم، وكيف أن الإحساس بالجمال مفيد جدا. إن وجود الأقسام العلمية في الثانوية، والكليات العلمية في الجامعة لا يعني إهمال القيم الجمالية صحيح أن جمال نظرية فيزيائية لا يشبه جمال نص أو معزوفة أو تمثال أو لوحة، لكن إحساس الفيزيائي بالجمال أيا كان نوعه يساعده على أن ينتقي أي الأفكار التي ستساعده على أن يفهم الطبيعة. تتمتع النظرية الجميلة بالبساطة، والبساطة في التناظر، وكل شيء فيها يحتل مكانه المثالي. إن نظرية تتمتع بسمات كهذه لتعطي الإنسان شعورا بالكمال كما لو أنه يقرأ أو يشاهد عملا فنيا بديعا. إن نوع الجمال في النظريات الفيزيائية كالبساطة والبناء المثالي والتناسق لهو جمال نادر إلى حد أنه يشعر الإنسان بأنه يقرأ عملا فنيا خالدا كتراجيديات اليونان. ولهذا يذهب وانبرغ إلى أن الفيزيائيين طالما استرشدوا بإحساسهم الجمالي لا في إنشاء النظريات الجديدة، بل في الحكم على مدى صحتها. وقد قبل هو نفسه النسبية حتى قبل أن يبرهن عليها برهانا ساطعا، وقد أعاد قبوله العام لهذه النظرية إلى جاذبية النظرية نفسها.  فالنظرية جميلة؛ لذلك قبلها.   11 – عن طبيعة المعنى لست أرى موضعا خيرا من هذا الموضع لأذكّر بشكوى أحد التلاميذ لمعلمه: إنك تروي لنا قصصا، لكنك لا تكشف أبدا عن معناها. قال المعلم: ما قولك لو قدم لك أحدهم ثمرة ومضغها قبل أن يعطيكها؟ يعنْون أنوطوني دومللو في كتابه (أغنية الطيور) هذه الحكاية بـ (كل ثمرتك أنت). ويعلق قائلا: ليس بوسع أحد أن يجد عنك معناك. ولا حتى المعلم.   هناك فرق بين الطريقة التي يبني فيها الإنسان المعنى، وبين طرق أخرى يتحول فيها إلى وعاء يملأ من قبل آخرين. فالقارئ يبني المعنى كما يبني الأهرامات ولا يكتشفه كما يكتشف البترول. ومما يؤسف له أن مثل هذه التصورات لم تصل بعد إلى المدرسة كما هي الآن. لكي يبني الإنسان المعنى يحتاج إلى أن يدرَّب على ذلك، وأفضل مكان يتدرب فيه هو المدرسة. غير أن المدرسة كما هي الآن تهمل المعنى الذي يكونه الطفل. وأكثر من ذلك لا تعترف به، هذا إن لم تحتقره أو تستهزئ به، فهي تنظر إلى الطفل على أنه يستقبل فقط ولا ينتج. إن الصورة البصرية التي تكشفها الحكاية التي أوردتُها أعلاه مقرفة، ومما يدعو إلى الأسف أن المعلمين الآن يمضغون الثمرة قبل أن يعطوها الطفل؛ أي أن الطفل لا يفعل سوى أن يتلقى معنى المعلم. إناءٌ لا أكثر. لا تتاح له الفرصة على أن يتدرب على الكيفية التي ينتج بها معناه. ومع ذلك فهذه الصورة المقرفة موجودة في كل مدارسنا. فالمعنى يقع خارج المتعلم، وما على المتعلم إلا أن يتقبله مثلما هو، وإذا ما تقبله فهو معنى غير قابل للتغير مع تقادم السنين، ليس المعنى فيما تدرسه مدارسنا مؤقتا وبل تدرسه على أنه معنى نهائي. لا تعلمه أن المعنى نتاج عقل لا يختلف عن عقله. وبهذا ينكر المتعلم ذاته بعدم تشغيل معارفه وخبراته التي ينفرد بها. إن المعنى ليس شيئا يمكن أن يعطيه أحد إلى أي أحد، إنما يتم من قبل القارئ نفسه، والمعنى الذي ينتجه لا يعده كاملا ولا نهائيا، بل مؤقتا ولا يعدو أن يكون تأويلا. المعنى الواحد سلطة وله تأثيره في المستقبل وإني لأذهب إلى أن العنف والإرهاب لهو صراع على من يمتلك المعنى، ولو أن هؤلاء المتصارعين تدربوا في المدرسة على أن ينتج كل واحد معناه لما حدث الصراع؛ ذلك أنهم سيتعلمون أنهم مختلفون وإذا ما كانوا كذلك، فسيكونون معنى على نحو مختلف. هناك فرص تدريب في حصص العلوم الإنسانية، ويمكن أن تكون حصص النصوص الأدبية تدريبا للأطفال على أن ينتجوا معناهم.  قد يزعم أن السماح بتعددية المعنى من قبل الأطفال، يحدث فوضى في الصف، ويفقد معيارية الاختبار. لكنني أتحمس للتعدد، وأعتز وأحتفل، ذلك أننا يجب أن نفهم كيف أن الأطفال مختلفون مثلما هم الناس مختلفون ومبتكرون بشكل لافت وبديع، ولا بد لنا من أن نبعد الفكرة التي تقول أن الأطفال لا يكونون المعنى. عندما يتم الاعتراف بأحقية المتعلم في أن يكون معناه تصبح القراءة شيئا أكير من مجرد علاقة بين إنسان ونص، وتتحول من حيث هي تكوين للمعنى المختلف والمتعدد من قبل قراء مختلفين ومتعددين فضائل يومية، وطرقا يعتادون عليها، ليس فقط في القراءة بل في الحياة. فتكوين المعاني المختلفة يعني تعددية تفتح لنا طرقا متعددة للرؤية والشعور والتفكير، وحين نعرف قيمة هذه التعددية تتكامل وجهات النظر المختلفة، ويدعم بعضها بعضا، كل قارئ يكون معنى من المعاني، جانب من الجوانب، خبرة منفردة لها الحق في أن تتبلور، وأن تضيف معنى من المعاني المحتملة. وبهذا التعدد في تكوين المعنى نتدرب على الحياة، وكيف أن كل واحد منا يكون وجها من وجوه الحقيقة، وجانبا من جوانب الواقع، كل منا يضيف لونا آخر لطيف الحياة، وكما قال كارل يونج إن وجود الحقيقة يتطلب أصلا كونشرتو من الأصوات المتعددة. لقد حدث على امتداد تاريخ الثقافة العربية أن شكل العلماء طبقة هي وحدها القادرة على فهم الغامض وشرحه وتفسيره. هذه الطبقة وحدها تعرف كيف ترى الأشياء التي تبقى مخفية عن الآخرين، وتملك القدرة على رؤية ماهو تحت الظاهر، أما الباقون من وجهة نظرها فغير موجودين ثقافيا، لذا ينبغي أن يتمثلوا طرق تفكيرها، ويشاركوا في نشاطاتها لكي يتعلموا منها لأن الناس العاديين لن يرتفعوا أبدا إلى أن يكونوا أندادا لها. *باحث ومشرف تربوي سابق