الحدث المحفّز والصراع:

شرارة الحكاية ووهج التحوّل.

في كل حكاية سينمائية هناك لحظة واحدة لا تُنسى، اللحظة التي يتغير فيها كل شيء. يسميها النقاد الحدث المحفّز، وتُعرف في بنية السيناريو بأنها الشرارة التي تُشعل مسار الفيلم وتدفع البطل نحو مواجهة لم يكن مهيأً لها بعد. إنها اللحظة التي تقتحم فيها الدراما حياة الشخصية لتكسر رتابة العالم الذي تعرفه، وتدفعها إلى طريق لا عودة منه. قد تكون هذه اللحظة فقداناً أو لقاءً أو اكتشافاً أو حتى خطأ بسيطاً، لكنها في جميع الحالات تصنع الصدع الأول في جدار السكون، ليبدأ بعده الصراع، بوصفه الامتحان الذي يواجه فيه الإنسان قدره أو نفسه أو العالم من حوله. فالحدث المحفّز هو السؤال، والصراع هو الإجابة المتأخرة. يصف الكاتب الأمريكي “روبرت ماكي” هذه اللحظة بأنها “نقطة اللاعودة”، لأنها تعيد تعريف الهدف والدافع والغاية في حياة البطل. ومهما تنوعت الأساليب أو اختلفت الثقافات، يظل هذا القانون الدرامي ثابتاً: لا صراع بلا حدث محفّز، ولا تحوّل بلا احتكاك يولّد الألم والدهشة معاً. ولعل من أجمل الأمثلة على ذلك في السينما السعودية الحديثة فيلم “سيدة البحر” (2019) للمخرجة شهد أمين، الذي يجعل من الحدث المحفّز نواةً رمزية لفكرة الصراع بين الفرد والمجتمع. تبدأ الحكاية في قرية ساحلية تعيش تحت طقوس غريبة تُقدَّم فيها الفتيات كقرابين لمخلوقات البحر. حين ترفض البطلة “حياة” مصيرها وتقرر التمرّد على العرف، يولد الحدث المحفّز الذي يُغيّر مجرى الفيلم بأكمله. تلك اللحظة إعلان تمرّد على سلطةٍ رمزية متجذرة في عمق الوعي الجمعي. من هنا يبدأ الصراع، بوصفه صراعٍ بين الحرية والقدر، بين أن تكون ذاتك أو أن تُمحى في طقسٍ اجتماعيّ يرفض الاختلاف. يستمد الفيلم قوّته من بساطة الشرارة الأولى، التي تحوّل الفتاة الصامتة إلى رمزٍ يقاتل من أجل البقاء. وبذلك يتجلى الحدث المحفّز كفعل وعي، والصراع كرحلة داخلية بقدر ما هي مواجهة خارجية. في المقابل، لو تأملنا أفلاماً عربية أخرى مثل “باب الحديد” ليوسف شاهين أو “ذيب” لناجي أبو نوار، سنجد أن الحدث المحفّز يؤدي الدور ذاته بطرائق مختلفة. في “باب الحديد”، يأتي التحوّل حين يواجه قناوي رفض حبيبته، فيتحول الإحباط إلى جنون. أما في “ذيب”، فيحدث التحوّل حين يُقتل الأخ الأكبر، فيجد الأخ الأصغر نفسه مجبراً على النضوج والدفاع عن ذاته في صحراء قاسية. في كل هذه النماذج تتغير الرؤية، لأن البطل بعد الحدث المحفّز لم يعد هو نفسه. إن الصراع يُقاس بقدر ما يكشف عن عمق الشخصية. ففي “سيدة البحر” الصراع يتخذ طابعاً وجودياً، حيث يتحول البحر من مجرد فضاء بصري إلى كيانٍ يحمل دلالات الخوف والخصوبة والموت. يوجد الفيلم حالة من التوازن بين الواقعي والأسطوري، ويحوّل الحدث المحفّز إلى نداءٍ داخليّ نحو التحرر، وكأن البحر نفسه يدعو الفتاة لتغسل عن جسدها الموروث الاجتماعي الذي كبّلها. السينما في جوهرها فنّ الصراع، والحدث المحفّز هو الذي يمنحها النبض الأول. من دونه، تظل الشخصيات ساكنة داخل عوالمها الصغيرة، بلا سؤال أو مغامرة. لذلك يتعامل المخرج المتمكن مع هذا الحدث كضربة ناي حادة في موسيقى السرد، تُحدث الإيقاع الأول الذي يلتقطه المشاهد دون وعي، لكنه يظل يتردد في ذاكرته حتى بعد نهاية الفيلم. وهكذا، حين تخرج البطلة من الماء في نهاية “سيدة البحر”، فإننا نرى الإنسان وهو ينتصر على فكرة المصير المغلق. ذلك هو جوهر الصراع في السينما: أن يتحول الحدث المحفّز من شرارة صغيرة إلى نورٍ يقود الشخصية إلى وعيها الجديد.