عن أحمد الملا، الذي كلما نظرت إليه، أعرف لماذا لم أخشَ العالم.

 ليس الشعر وحده ما صاغه أحمد الملا، بل كل ما حوله صار قصيدةً حين لمسه بقدرته على الرؤيا. لم يكن يكتب الشعر، بل يوقظ اللغة حين تغفو، وينفخ في التفاصيل روحًا تشبهنا، وتفاجئنا معًا. منذ بداياته، كان يمشي في الشعر كما يمشي في ممرّ ضيّق من الضوء، يعرف أنّ الخطوة الواحدة قد تفتح كوكبًا، وأنّ الصمت أحيانًا أكثر بيانًا من القصيدة. كان يكتب وكأنّه يترجم عوالم لا تُرى، يلتقط ما بين السطور، ويقدّمه لنا وكأنّه كان فينا. لم يكن صوته يطلب الانتباه، بل يمنحه. كان يحوّل العابر إلى أثر، والمألوف إلى مفاجأة. كلّ ما اقترب منه تغيّر، حتى المفردة التي اعتدناها، تصير في حضوره جسدًا له ظلّ، وله نفس. لم يكن ينقّح الكلمات، بل يكشفها. في كتاباته، تتجاور الندبة والكرامة، ويجلس الحنين قرب الواقعية بلا تصالح مصطنع. هو الشاعر الذي لم يُرَبِّ قصيدته على الطاعة، تركها تتنفّس بصدقها، تنكسر أحيانًا، لكنها لا تكذب، بل تقول ما لا يُقال. في زمنٍ يعلو فيه الصوت على المعنى، اختار أن يصغي: إلى ما يُقال، وما لا يُقال، إلى ارتباك البشر حين يحاولون البوح، وإلى ما يسقط منهم وهم لا ينتبهون. ولهذا ظلّ شعره يفتح مساحات للآخرين: من قرأه، وجد فيه مرآة، ومن سمعه، أدرك أنّ الشعر ليس زينة، بل طريقة لالتقاط العالم قبل أن يفلت من بين أيدينا. لكن أحمد ليس شاعرًا فقط. هو صانع مساحات ثقافية، ومؤسس مشهد، وبوصلة لجيلٍ كامل كان يبحث عن ملامح وجهه في مرآة الفن. من أول مهرجان لأفلام السعودية وحتى آخر جلسة حوارية في نادٍ أدبي، كان أحمد هناك: لا ليلقي خطابًا، بل ليشعل فكرة، أو يفتح بابًا كان مغلقًا. في السينما كما في الشعر، كان يؤمن أن الإبداع لا يحتاج إلى ضوءٍ خارجي كي يُرى، بل إلى صدقٍ داخلي كي يُحسّ. دعم المخرجين، آمن بالمجددين، وقف مع كل من بدأ من الصفر، ورأى الجمال في المحاولة حتى حين تعثّرت. وكان صوته دومًا في صفّ من يغامر ويصدق. وحين يعود إلى البيت، لا يخلع عنه صفاته. فهو الأب الذي يربّي باللين لا بالتلقين، الزوج الذي يُنصت دون أن يقاطع، والصديق الذي لا ينشغل حين تحتاجه. معه، لا تشعر أن الحياة سهلة، لكنك تشعر أن احتمالها ممكن، وأن الكتف موجود، حتى في أشد لحظات الانكسار. أكتب شهادتي الآن، لا لأرسم له صورة، بل لأقول إننا نحن صورته. نحن من أثّر فيهم، ومن غيّر في نظرتهم للقصيدة، للفيلم، للحوار، للحياة. لم يكن يعلّم بالكلمات فقط، بل بالموقف. لم يكن يحتكر الضوء، بل كان يمنحه دون حساب. أحمد الملا لا يُعرَّف بما كتب، بل بما أطلقه فينا من رغبة في أن نكون صادقين مع كلماتنا، أمناء على لحظتنا. قصيدته ليست بيتًا يُحفظ، بل طريقًا يُعاد عبوره في كل قراءة. وهذا ما يجعله خالدًا: لأنه لا يترك أثرًا في النص فقط، بل في طريقة النظر، وطريقة الإصغاء، وفي التفاصيل التي لم نكن نراها، حتى فتح لنا عيوننا على دهشتها. هذه شهادتي، من امرأة عرفت قيمة النور حين مشت معه. من شريكته، ورفيقته، وصديقة قلبه، وساكنة البيت الذي بناه بالحب، واللغة، والسكينة. لذلك، كلما نظرت إليه، أعرف لماذا لم أخشَ العالم.