جناية الجوال على الكتاب.

لم تبدأ مشكلتنا مع القراءة في العالم العربي بدخول الجوال (ومشتقاته وأشباهه) ووسائل التواصل الاجتماعي إلى تفاصيل حياتنا، فقد كانت مستويات القراءة متدنية من حيث مُدد القراءة مقارنة بدول العالم الأخرى قبل انتشاره أيضًا، وكذلك كان الأمر مع مبيعات الكتب. وجاء دخول الجوال ليزيد الطين بِلةً ويختطف ما بقي من أوقات لدى الناس للقراءة في أمور فائدتها قليلة جدًّا؛ كالألعاب ومتابعة أخبار المشاهير والمقاطع التصويرية القصيرة، وبعض القراءات المتفرقة غير المركزة ومن ضمنها الكتابات المختصرة جدًّا. وحتى حينما يقرأ البعض من الجوال فإن هذه القراءة تختلف عن القراءة من الكتاب الورقي في أنها ذات طبيعة تتميز بالسرعة والسطحية وعدم التركيز، مقابل القراءة من الكتب التي كانت تحتاج إلى أجواء خاصة من الهدوء والتركيز والتأمل. ويعزز من عدم التركيز في القراءة من الجوال ما يسمى التشتيت الرقمي، حين يتواصل ظهور الإشعارات لدى حامله ليجعل التركيز أمرًا شبه مستحيل، علاوة على الاتصالات المتتالية. الجوال نفسه ليس عدوًّا للكتاب، لكن أسلوب استخدامه، وتطبيقاته، والمغريات المحيطة به، تجعله كذلك. فنحن نستطيع أن نقرأ كتبًا منه وأمورًا أخرى مفيدة، لكن مشكلتنا هي مع أنماط استخدامه، ومن بعض تطبيقاته التي تتوالد كل يوم، والتي سرقت منا المقدرة على الصبر والقراءة العميقة، حتى تحول من خادم للمعرفة إلى سيد لها يأخذ مستخدمه يمنة ويسرة، فلا ينتبه إلا وقد انقضى من وقته ساعات وساعات (أربع ساعات أو خمس كل يوم في بعض المجتمعات) بفوائد محدودة مع ضعف كبير في القدرة على التركيز. فما الذي يمكن أن يتبقى بعدها من وقت أو جهد فكري متاح؟ خاصة أن بعض الكتب تتطلب تركيزًا كبيرًا وانغماسًا فيها حتى يستطيع القارئ أن يخرج بمحصلة جيدة منها. كذلك أسهم الجوال، مع أمور أخرى، في تغيير المزاج العام للناس، من القراءة المعمقة إلى قراءات سطحية وموجزة لا تفي بالغرض المطلوب منها، وتغيرت معها طرق استهلاك المعرفة. فبينما كان الناس في عقود سابقة يقرؤون أكثر من كتاب لفهم فكرة، أصبحوا يكتفون بقراءة تغريدة بسيطة عنها في سطر أو سطرين، أو صفحة في موسوعة ويكيبيديا مثلًا. أتذكر في شبابي أنني اشتريت خمسة كتب عن الاقتصاد لكي أفهم كيف تمضي الأمور في البنوك، وكيفية عمل الفوائد فيها؛ في حين قد يكتفي جيل اليوم بمشاهدة رسمة توضيحية (إنفوغرافيك) في موقع ما لكي يعتقد بأنه فهم الموضوع. إن مقاومة التدفق الكبير لهذا المحتوى المُبتَسر واستبداله بكتاب ورقي ليس مجرد حنين للماضي، بل حاجة ملحة إن كان الهدف هو تسنم مكانة لائقة في سباق التدافع الحضاري في عالم اليوم.