حين يُثمر الصبر الجميل
كلُّ ما حولك يذكّرك بفضيلتي الصبر وقوة العزيمة؛ سواءً كنتَ في ذروة النجاح أو في استراحةٍ يخفت فيها الحظ. طموحٌ تسعى إليه، وعارضٌ صحيٌّ تنتظر زواله، وفسيلةٌ غرستَها وتترقّب ثمرها أعوامًا. لا أنسى أول دراجةٍ اشتراها لي والدي؛ سقطتُ مرات وامتلأت ساقاي بالخدوش قبل أن أُسابق بها الريح. وفي أول تجربةٍ للزراعة في حوش البيت مات معظم الزرع خلال شهر، ولم تنجُ إلا شجرة النِّيم؛ طبيعتها التي تحتمل اختلاف المناخ جعلتها اليوم تحلّق نحو السماء. كان لي صاحبٌ موهوب لا يمنحه المدرب فرصةً كافية، يلوّح من خط الملعب: “طبّ طبني”. بعد سنواتٍ قليلةٍ أصبح من أبرز لاعبي نادٍ محلي. وعلى النقيض، لاعبٌ آخر كان يهدّد: “إن ما لَعَّبتني أخرّب المباراة!” وكان أحسن ما فيه مظهره، لا لعبه. هكذا تَشهد تجارب الحياة أنّ التفوّق ليس حكرًا على الأذكى، بل كثيرًا ما يناله الأصبَر. زميلٌ في البكالوريوس بدا بطيءَ الفهم، قليل الكلام، لكنه كان يكتب كل كلمةٍ بجلَدٍ مدهش حتى تخرّج بامتياز؛ كانت له طريقته الخاصة في الاستيعاب. وما زلتُ أستعيد بيتًا شعريًا واحدًا: “الصبر مفتاح الفرج دايم الدوم..”. تفقدُ عزيزًا؟ تلك مشيئة الله. تحزن، لكن البكاء أعوامًا لا يُعيد أحدًا. تفقدُ عملك؟ يضايقك جارٌ؟ تُصلح ما تستطيع وتصبر على ما لا يُصلَح. حتى لحظات النجاح لا يتذوّقها إلا من تَعب وصبَر، لا المتذمّرون. ومع ذلك، ثمة أمورٌ لا صبرَ عليها؛ تشبه الزائدة الدودية: يجب أن تُستأصل. لستَ مُجبَرًا على رفقةٍ تؤذيك، ولا على طريقٍ شائكٍ وفي وسعك تغييره. وإذا صار صدرك “صيدليةً للنفسيّات”، فلستَ مطالبًا بمعالجة الجميع؛ يكفي أن يكون حديثك طيبًا وفي موضعه. لا شيء يأتي بلا تعبٍ أو سعيٍ حقيقي، كما تحتاج فسيلة النخل إلى أعوامٍ حتى تُثمر، وشجرة النِّيم إلى وقتٍ حتى يكتمل ظلّها وجمالها. كذلك كانت رحلتي في دراسة الماجستير بعد سنواتٍ من الانقطاع؛ عودة إلى شعور البدايات الأولى، إلى الأرق قبل الامتحان، والفرح بعد انتهائه، إضافة لتعب السفر وقطع المسافات، وواجباتٍ ومشاريع بحثيةٍ لا بد من إنجازها بإتقانٍ حتى تكتمل الرحلة ويكون للشهادة معناها الحقيقي. وقد لخّص المتنبي هذا الطريق الطويل في بيتٍ لا يشيخ حين قال: قَد هَوَّنَ الصَبرُ عِندي كُلَّ نازِلَةٍ وَلَيَّنَ العَزمُ حَدَّ المَركَبِ الخَشِنِ