الديموغرافيا…تعيد صياغة التاريخ.
في مقابلة صحفية عام 2018، قال الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي بوضوح لافت: “الغرب اليوم لا يتجاوز بسكانه 800 مليون نسمة، بينما آسيا وحدها تضم ما يقارب أربعة مليارات نسمة . الديموغرافيا هي التي تصنع التاريخ، ولم نعد نحن قلب العالم كما كنا. لقد انزاح المحور من الغرب إلى الشرق.” لم يكن كلام ساركوزي مجرد ملاحظة عابرة ولم يكن الوحيد الذي حذر من ذلك لكنه كان يشخص واقعاً استراتيجياً عميقاً تمر به القارة؛ فأوروبا التي قادت العالم منذ القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن العشرين، بسكانها الأصليين، لم تعد سوى أقلية بشرية في عالم يتغير بسرعة. بل إن أوروبا باكملها والولايات المتحدة معًا أصبحتا أقل عددًا من سكان دولة واحدة مثل الصين أو الهند، اللتين تجاوز عدد سكان كل منهما مليارًا وأربعمائة مليون نسمة. هذا القلق الأوروبي – الأمريكي من التغير الديموغرافي وانخفاض معدلات الإنجاب لم يكن جديدًا؛ فقد نبّه إليه الكاتب الكندي مارك ستاين في كتابه «أمريكا وحدها» (2006م)، عندما قال إن أوروبا مقبلة على “انتحار ديموغرافي” بسبب تراجع معدلات الولادة وتزايد أعداد المهاجرين وارتفاع نسبة كبار السن، متوقعًا أن الهوية الأوروبية قد تتلاشى خلال عقود قليلة. وهو ما بات يُلاحظ حاليًا في القارة العجوز من خلال اختلاط السكان الأصليين بالمهاجرين وتزاوجهم، ونشوء أجيال هجينة تمثّل ملامح أوروبا الجديدة. لكن البذور الفكرية لملامح هذا التحوّل ليست وليدة اليوم؛ فقبل قرن تقريبًا، كتب الكونت ريتشارد كاليرجي في كتابه «المثالية العملية» (1925م) أن مستقبل أوروبا لن يبقى قائما على نقاء الأعراق، بل على العكس تمامًا: “إنسان المستقبل الاوروبي سيكون مختلط العرق، أوراسيًا، زنجيًا. القوميات القديمة ستذوب، لتحل محلها هوية بشرية جديدة.” كان كاليرجي ينظر إلى هذا التحوّل بوصفه مشروعًا مثاليًا وإنسانيًا لبناء “إنسان عالمي”، بينما جاء ساركوزي بعد مئة عام تقريبًا ليقرأ المشهد بواقعية مغايرة : الأرقام لم تعد في صالح الغرب، وصعود آسيا السكاني غيّر مركز الثقل في النظام الدولي. ولم يكن ساركوزي أو كاليرجي وحدهما من التفتا إلى هذه المسألة؛ فالمفكر الأمريكي صموئيل هنتنغتون حذّر في كتابه «من نحن؟» (2004م) من أن الهجرة، خصوصًا من أمريكا اللاتينية، تهدد بتغيير الهوية الثقافية والديموغرافية للولايات المتحدة، بما ينعكس على الغرب بأسره. أما المفكر البريطاني دوغلاس موراي، فيرى أن أوروبا تفقد ثقتها بنفسها أمام موجات الهجرة وتغيّر تركيبتها السكانية، وأن القارة العجوز “ تسلّم نفسها طوعًا لذوبان هويتها التاريخية.” ظاهرة ساعدت على زيادتها عدة عوامل منها فتح أبواب الهجرة، المشروعة وغير المشروعة، وتزايد الحاجة للأيدي العاملة في المصانع الأوروبية وتوفر فرص التعليم والحياة الأفضل والهروب من المجتمعات الفقيرة والمضطربة. ومن المعلوم إن انخفاض معدل المواليد وارتفاع معدل الأعمار في أي بلد لا يغيّران شكل المجتمع فقط، بل يضربان في عمق اقتصاده واستقراره السياسي. فالدول التي يقل فيها عدد الشباب ترتفع فيها كلفة الرعاية الاجتماعية والصحية، ويزداد الضغط على صناديق التقاعد وأنظمة الضمان والصحة في حين يتقلص حجم القوى العاملة المنتجة التي تقوم عليها المجتمعات الانسانية . ومع شيخوخة السكان، تتحول الموارد العامة من الاستثمار والإنتاج إلى الإنفاق على الرعاية والعلاج، مما يضعف النمو الاقتصادي ويقلص القدرة التنافسية. كما تؤدي هذه التحولات إلى تغيّر الأولويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، على حساب السياسات والخطط المستقبلية التي من المفترض ان تخدم الأجيال الشابة والاقتصاد على المدى الطويل. وهكذا، يصبح المجتمع أكثر محافظةً وأقل استعدادًا للمخاطرة أو الابتكار، بينما تتسع الفجوة بين الأجيال وتتراجع الحيوية الاقتصادية. ومن نبوءة كاليرجي المثالية التي رأت في الذوبان الديموغرافي مشروعًا لبناء “إنسان أوروبي جديد”، إلى صرخة ساركوزي التي ترى في زحف المهاجرين تهديدًا لمركزية الغرب، وصولًا إلى تحذيرات مفكرين كثر من “ انتحار أوروبا الديموغرافي”، يبقى الثابت أن الأرقام السكانية ومعدل نسبة المواليد واستقرار الطبقة المتوسطة هي القوة الخفية التي تعيد صياغة التاريخ والسياسة والهوية لأي مجتمع . وتؤكد ان المجتمعات الشابة هي الأكثر قدرة على الاستقرار والتاثير المحلي والعالمي.