حروب الجيل الخامس .. حين تتحوّل المعركة إلى الوعي.

لم تعد الحروب في هذا العصر تُخاض بالسلاح والدمار، بل بالعقول والمعلومات، ولم يعد الميدان أرضًا تُحتلّ بقدر ما أصبح وعيًا يُعاد تشكيله. ففي زمن حروب الجيل الخامس تغيّر شكل الصراع وتبدّلت أدواته؛ إذ انتقل من الميدان العسكري إلى فضاء الفكر، ومن السيطرة على الأرض إلى السيطرة على الإنسان ذاته. إنها حرب صامتة تُدار في صمت الشاشات، وتُخاض بالكلمة والصورة والمعلومة. حرب لا تهدف إلى تدمير المدن، بل إلى إرباك الوعي وتغيير المفاهيم، ولا تسعى إلى إسقاط الأنظمة بقدر ما تعمل على زعزعة الثقة بين الإنسان ووطنه ومصادره، فتُضعف الحصانة الفكرية وتُربك الهوية الثقافية. لقد تطوّر شكل الحرب عبر التاريخ من المعارك التقليدية إلى الحروب الإلكترونية والسيبرانية، حتى وصل إلى هذا الجيل الجديد الذي يُعرّفه الخبراء بأنه «صراع على العقول قبل الميادين»، تُستخدم فيه المعلومات والتأثير النفسي والإعلامي لتحقيق الأهداف دون مواجهة مباشرة. ففي حروب الجيل الخامس لا يُطلق العدو النار، بل يُطلق الشك، ولا يحتل الأرض، بل يخترق العقول. في هذا العالم المترابط عبر الشاشات والمنصّات أصبحت الكلمة أشدّ أثرًا من الرصاصة، والمعلومة أسرع من أي جيش. فاليوم تُخاض المعركة عبر وسائل التواصل، وعبر ما يُعرف بـ «حروب السرد»، حيث تُصاغ القصص والروايات لتوجيه الإدراك الجمعي. يكفي أن تتكرّر رواية حتى تتحوّل إلى «حقيقة»، وأن تُعاد فكرة مغلوطة حتى تستقرّ في الوعي العام. وهكذا تغيّر مقياس القوة، فلم يعد يُقاس بالعتاد أو العدد، بل بقدرة الفكرة على الانتشار، وبالنفوذ الذي تمارسه الصورة والخبر والتأويل. تبدأ الحرب حين يتنازل الإنسان عن حقّه في التفكير، فيصبح رأيه انعكاسًا لما يُبثّ له لا لما يُؤمن به. إنها حرب ناعمة لا تُعلن، تُدار من وراء الشاشات، تُحرّك العواطف، وتزرع الشك في الثوابت، فتُحدث انقسامًا داخل المجتمعات دون طلقة واحدة. لذلك أصبحت المعلومة سلاحًا والوعي جبهة، وأضحى الدفاع الفكري لا يقل أهمية عن الدفاع العسكري. وفي مواجهة هذا التحوّل، تبرز الثقافة بوصفها الحصن الأقوى لحماية الوعي وصون الأمن الفكري. فالثقافة ليست ترفًا ولا تكديسًا للمعلومات، بل هي وعيٌ راسخ يمنح الإنسان قدرة على الفهم والتمييز، ويُنمّي حسّه النقدي تجاه ما يُعرض عليه من روايات. والمجتمع الذي يمتلك ثقافة حيّة لا يُقاد بسهولة، لأن المعرفة الواعية تمنحه مناعة فكرية ضد التضليل، وتجعله يقرأ ما وراء الصورة لا ما فوقها. لقد أدركت مملكتنا الغالية، بقيادتها الرشيدة، مبكرًا طبيعة هذا التحدي العالمي، فتعاملت مع حروب الفكر والمعلومة بمنهجٍ استباقي يقوم على صناعة الوعي وترسيخ الأمن الفكري ومكافحة الفكر المتطرف، باعتباره أحد أبرز أسلحة الجيل الخامس التي تستهدف العقول باسم الدين أو الحرية أو العدالة الزائفة. ومن أبرز الجهود الوطنية في هذا المجال المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف (اعتدال)، الذي يُعدّ نموذجًا عالميًا في مواجهة التطرف وتصحيح المفاهيم ونشر قيم الوسطية والاعتدال، عبر رصد وتحليل الخطاب المتطرف، وتفنيد رواياته بالحجة والعقل والمنهج العلمي. كما أسهم مركز الحرب الفكرية التابع لوزارة الدفاع، ورئاسة أمن الدولة، ووزارة الشؤون الإسلامية، وهيئة كبار العلماء، ومركز الحوار الوطني، ووزارة الثقافة وهيئة الإعلام، في تكوين شبكة وطنية متكاملة تُواجه التطرف بالفكر لا بالقمع، وبالحجة لا بالصوت العالي، وبالتنوير لا بالمصادرة. إنها منظومة فكرية ومؤسسية متماسكة تُعيد للدين وسطيته، وللإنسان وعيه، وللوطن أمنه الفكري والاجتماعي. وانطلقت هذه الجهود من رؤية شاملة تستند إلى بناء الإنسان السعودي القادر على التمييز والنقد والمشاركة الفاعلة في حماية وطنه وتعزيز استقراره. ومن خلال رؤية السعودية 2030، أضحت مفاهيم الوعي والهوية المتوازنة جزءًا من منظومة الأمن الوطني الشامل، حيث تتكامل الثقافة والتعليم والإعلام في مشروع وطني واحد هدفه تحصين العقول كما تُحصّن الحدود، وترسيخ قيم الولاء والانتماء والمواطنة الواعية التي تمثّل جوهر الشخصية السعودية في عهدٍ يشهد نهضة فكرية وتنموية واسعة. ولا يُبنى الوعي الجمعي إلا على الثقة؛ الثقة بالمصادر الوطنية والرموز والمؤسسات التي تمثّل ضمير الأمة وهويتها. فعندما تتصدّع هذه الثقة، يصبح الطريق ممهدًا للفوضى الفكرية، ويُفتح الباب أمام كل خطابٍ يسعى لملء الفراغ. ومن هنا تتجلّى أهمية الدور الوطني للمؤسسات الثقافية والإعلامية والتعليمية في ترسيخ المفاهيم الصحيحة وبناء إدراك وطني متماسك. فترميم الثقة ليس مهمة إعلامية أو تعليمية فحسب، بل مسؤولية ثقافية وأخلاقية تُعيد للإنسان علاقته بالمعلومة والواقع والذات. إن أخطر ما يواجه المجتمعات اليوم ليس الجهل، بل فيض المعلومات المغلوطة التي تُقدَّم على أنها معرفة. فالمعرفة بلا وعي تولّد الفوضى، والفوضى بلا بوصلة تخلق ضبابية تُخفي الحقيقة مهما كانت واضحة. لذلك تُصبح التربية على التفكير النقدي، والقدرة على التحقق من المعلومة، ومواجهة الفكر المتطرف بأسلوبٍ علمي وواعٍ، من أهم أدوات الحماية الفكرية في عالمٍ بات فيه الخبر سلاحًا والصورة جبهة. الوعي في هذا العصر ليس ترفًا، بل ضرورة بقاء. إنه خط الدفاع الأول أمام سيل الرسائل والصور والمفاهيم التي تُغرقنا كل يوم. من يملك وعيه يملك قراره، ومن يملك قراره يملك حريته. لقد تغيّر شكل الحرب، لكن جوهرها بقي واحدًا: محاولة إخضاع الإنسان. فالكلمة الواعية قد تحمي وطنًا، كما أن الفكرة المضلّلة قد تهدم أجيالًا دون أن تُطلق رصاصة واحدة. الوعي هو السور الذي يصون الأوطان من الداخل، ويردّ عنها سهام التضليل في زمنٍ تختلط فيه الحقائق وتتعدد فيه الأصوات. وحين يبقى الفكر يقظًا تبقى الأوطان آمنة، وحين تتماسك القيم تتماسك الحدود. وفي ختام القول، يظلّ الأمن والاستقرار تاج النِّعَم وركيزة الازدهار، فبهما تُشيَّد الحضارات وتُصان الكرامة وتزدهر الحياة. إنّ الحفاظ على هذه النعمة العظيمة مسؤولية وعيٍ وانتماءٍ صادقٍ يحمله كلّ مواطنٍ بقلبه وفكره وفعله. فلنكن جميعًا أوفياء لمملكتنا الغالية، نحرسها بعقولٍ يقظة وقلوبٍ مؤمنة وسواعدٍ مخلصة، ونورّث أبناءنا معنى الولاء كما نورّثهم الأرض. أدام الله على مملكتنا الغالية نعمة الأمن والأمان، ورفع رايتها بالعزّ والإيمان، وحفظ خادم الحرمين الشريفين وسموّ وليّ عهده الأمين، وسدّد خُطاهما لما فيه خير البلاد ورفعة الإنسان.