(قراءة في ديوان «زَند» للشاعر حسين آل دهيم) ..

العبورُ من الأسلاف.

لا حدودَ للغة، إذ تتَّسع مع كل تأويلٍ وإعادة استخدام، فمع كلِّ مُستخدِم تنتعش وتنتج دلالاتٍ جديدةٍ وغير مسبوقة، وعلى رأس المستخدِمينِ يأتي المبدعون الهادفون إلى إيجادِ لغة خاصة بهم، تتسمُ بالمرونة والكثافةِ والعمق والإيحاء؛ كي تعبِّر عما في دواخلهم وتنقله إلى المتلقين من أجلِ مشاركتهم ومشاكستهم، مدفوعينَ في ذلك بمحاولة تجاوزِ أسلافهم ومجايليهم، فهذا ما يطرحُه ويسعى إليه ديوان “زَند” للشاعرِ حسين آل دهيم. تبدَّلت الموضوعات واختلفت الأزمنةُ وبات السابق لا يتفوَّق على اللاحق بأسبقيَّته وأقدميَّته، إنما بما يأتي من موضوعاتٍ جديدةٍ وتراكيب مبتكرة وألفاظٍ منسجمةٍ وموحية؛ ما جعل الأجدادَ يتوارون عن المشهد، ليظهرَ الأحفاد ويأخذوا مواقِعهم وأدوارهم، وهو ما قامَ به الشاعر حينَ أدخل ذاته إلى ديوانه، الذي ينقسم إلى: زَند العُربة وزَند العُجمة وزَند الغَمغَمة. الأقسامُ الثلاثة تحكي سيرة شاعرٍ حاول تجاوزَ أسلافه عبرَ اختيار لغةٍ لا تشبه لغتهم وطريقةٍ لا تشبه طريقتهم، ففي “زَند العُربة” كشف عن انتمائِه وأُسلوبه، وفي “زند العُجمة” كشف عن تأثُّره بلغاتِ الآخرين، وفي “زند الغَمغَمة” كشف عن رؤيتهِ للشعر وكيفيَّة تلقِّيه. ثلاثةُ كشوفاتٍ تتداخل وتتجاور لرسم خِطاب الديوان، معتمدة على مشاركةِ الذات في إيصالِ معاناتها بصوتها الداخلي الخاصِّ (قصيدة: بطاقة تعريف أجشَّ الصوت): “حاءٌ فسينٌ مهملتان .. تتلوهما ياءٌ مثناةٌ، ونون موحَّدة معجمتان”، متحدِّثة عن سيرتها الشعرية وكيفَ تنظر إلى قصِيدتها: “تنامُ بعينٍ مفتوحةٍ كالشعراءِ ساطعي الموهبةِ تتقمَّش باللغة الناشزةِ عن لغتهم لكنك لستَ من حِلفهم تحاربهم الرأيَ وتخالفهم الرويَّ والقافية ولا تخشى من وصمِك برذيلةِ الشِّعر وأنتَ لم تعش منازلهُ بعصاً غليظةٍ ولم تكن مرجفاً عند تذويبِ المفردات على مراجلِ لسانك” من أجل النجاحِ في تأسيس ذائقةٍ مختلفةٍ لا بد من تجاوز الأسلافِ واقتلاعهم من الذاكرة؛ لأنهم يمنعونَ التجديد ويحاربونَ التغيير (أساطير القادم من بئر التمر): “يقتلعُ جدَّه من مأواهُ في المقابرِ الجيريَّة، ويحطُّ به قِبالة الأسئلةِ الوليدَة” ثمَّة أسئلة تتوالد ولا إجاباتٍ من الأسلاف، حيثُ الزمن تغيَّر وتسارع واختلفَ عن السابق؛ ما دفعَ الذات إلى إعلانِ تحديها للسائدِ والمألوف، رغبة في تقديمِ إجابات تكشفُ واقعها وتسهمُ في وضوحه: “فيتمتمُ: ساحليٌّ أنا، ولغتي هيَ ما استجمعتُ ألسُنها وأقمتُ بناءَها وركنتُ لراحتي بينَ فروشِها” كاشفةً عن أسلحتها التي ستعتمدُ عليها في إجابةِ الأسئلة العصريَّة الملحة: “الحكمةُ مِدرعتي، والبلاغةُ أبرِد بها ما استغلقَ من الكَلام”. المعركةُ لا تختصُّ بالشعراء والمبدعين؛ لذا تتَّسع المقاربة لتشملَ جميع أبناء الزمنِ الراهن، ممن يردِّدون عبارات التَّمجيد والمديح للأسلافِ من الآباء والأجداد، متناسينَ اختلاف حياتهم عن حياة الباديةِ والصحراء، وهو ما يستفزُّ الذات (الكر بعد التنصل من الإجماع): “لا تحترمُ ملامحي الباديةَ من خلفِ أحواضِ السمك”، ويدفعها إلى التساؤلِ عن جدوى المديحِ والتَّمجيد: “هل عليَّ أن أمدحَ سيفي وهو يسهرُ بعيداً عن الجرحِ أم أصف نصلهُ للمهازيلِ وهو يقطع رسْن ناقتي لتنوخَ بي قبل أن تطلقَ حنينها؟!”. الأسلافُ ومن انتمى لهم لا يستسلمون، فيلجؤون إلى الحوارِ والرد، حيث يرون المشكلة في كيفيَّة تفكير الشاعرِ ونظرته إلى الحياة، لكنه في المقابلِ يفحمهم ويبيِّن خطأ تفكيرهم وعجزهم عن استيعاب المتغيِّرات والمستجدَّات (شطح يتوسل السكرة الخامسة): “يقولون لا تحلمْ فأحلامُك متقيِّحة ونحنُ نخشى على صدُورنا عندما تَنام. أنا لم أكن أحلمُ كثيراً بل كنتُ أدرِّب ذاكرتي على حريَّة الرؤيا”. تضعُ الذات خطة لانتشالِ الأسلاف وأفراد المجتمعِ البسطاء وإيضاح “الحقيقة” لهم، تعتمدُ طرح تساؤلاتٍ تثير “العقل” وتستدعي الاستجابةَ من “المتلقي”؛ للبحثِ عن الإجابات والتأمُّل فيها (المنتصر على الرميم): “إن لم تُعمل غايتكَ في التلقِّي لن يستدلَّ العقلَ على أسرارِ العبُور من السِّياج”. القصائدُ الجديدة باتت تكتب بلغةٍ مختلفة وأسلوبٍ لا يشبه أسلوبَ الأسلاف؛ لهذا يعاني المتلقي حينَ يحاول إدراك معناها، إذ يحتاجُ ممارسة “التأويل”؛ من أجلِ الوصول إلى الحقيقةِ (طفل خلف جدار مثقوب): “قصائدي أكتبُها وأنا في ذروةِ تآزري مع عقلي أمنطقُ الباطلَ الذي يراهُ أهل الحقِّ باطلاً وأبطلُ الحقَّ الذي يراهُ أهل الباطلِ حقًّا” يحاولُ الشعراء منذ القِدَم تجاوز سابقيهم ومجايليهم والإتيانَ بالجديد وغيرِ المسبوق، لكن كثيرين يقعُون في أسرِ الموروث وسِجن الأسلوب؛ ما وضعَ الشاعر المعاصر أمامَ أزمة في كيفيَّة تلقي الشعرِ وتأويله، وهذا الأمرُ دفع الذات إلى كشفِ أسرار الكتابةِ وصناعة المعنى؛ بهدفِ إقامة جسرٍ بينها وبينَ المتلقي.