من المتوسط إلى الخليج .. ذاكرة أديب.

منذ البدايات، كان البحر المتوسط فضاءً جامعاً للحضارات، تتعاقب على ضفافه الثقافات وتتداخل على مياهه الحكايات. ليبيا، بموقعها الجغرافي وتاريخها العريق، كانت دائما بوابة تُطل على هذا الفضاء الرحب، ومصدراً لإلهام الأديب العربي في خطواته الأولى. هنا تشكّلت ذاكرة الكتابة، مستمدة من تفاصيل الحياة اليومية، وبساطة الناس، وصدق الموروث الشعبي، لتُصبح الأساس الذي يبني عليه الأديب صوته الخاص. لكن الذاكرة الأدبية لا تبقى أسيرة المكان الأول، بل تنفتح على آفاق جديدة. ومن هنا بدأت رحلتي إلى الخليج العربي، حيث اختبرت فضاءً مختلفاً له نكهته الثقافية الخاصة وتاريخه المُتشابك مع الحداثة. الخليج لم يكن محطة جديدة فقط، بل عالماً موازياً أضاف لي رؤى وأحاسيس مختلفة. كيف يُمكن للهوية الأدبية أن تتجدد دون أن تفقد أصالتها؟ وكيف يُمكن للكاتب أن يُحافظ على جذوره وهو يكتب في بيئة جديدة متنوعة؟ في هذا السياق، جاءت تجربتي في السعودية لتكون نقطة محورية في رحلتي الأدبية. فقد شاركت في النسختين الثالثة و الخامسة للمسابقة الأدبية التي أشرف عليها الدكتور عبد الرحمن العبدالله المشيقح، وتنافست في فرعي المقال الأدبي والقصيدة العربية. شعرت حين كتبت مقالي بعنوان «حقوق المرأة العاملة وتلاشيها عبر الزمن» أنني أكتب من طرابلس إلى المملكة، وكأن قلمي يجمع بين جذوري وفضاء التجربة الجديدة. لقد أتاح لي هذا الاحتفاء والدعم المعنوي فرصة لتأكيد صوتي، والشعور بأن كتاباتي تصل إلى فضاءات عربية واسعة. أما نصي في القصيدة العربية فكان بعنوان «شاعر المديح والهجاء»، وقد جسّد المفارقة الشعرية بين المدح والذم، ورسم صورة الشاعر كمرآة للمجتمع، يلتقط مواطن الجمال والخلل بصوت موزون، عذب، يوقظ الوعي وينكأ الغفلة. كانت تلك الرحلة الأدبية بالنسبة لي توازناً بين العمق والوضوح، بين الفكر والشعور، والقدرة على التعبير بصوت لا يطلب الصدى بل يترك الأثر. هذه الرحلة المُتواصلة من المتوسط إلى الخليج تمنح النصوص بعدين متكاملين: الأصالة المستمدة من العمق الليبي، والانفتاح على التجارب الثقافية الجديدة في الخليج. فالمكان الأول يظل حاضراً كحنين وذاكرة، بينما المكان الجديد يصبح مُحفزاً للإبداع واستكشاف مسارات أخرى للكتابة. وهكذا تُشكل لدى الأديب ما يمكن أن أسميه ذاكرة مزدوجة: تحمل بصمة المتوسط وتنفتح على فضاء الخليج، ليكتب بلسانين في آن واحد، لسان الجذور ولسان المستقبل. من المتوسط يأتي الصدق والبساطة والارتباط بالبيئة الشعبية، ومن الخليج تأتي الحيوية والانفتاح على الفكر والإبداع المعاصر. والكاتب الذي يحمل هذه المزاوجة قادر على إنتاج نصوص مركّبة لا تنغلق على ذاتها، ولا تختزل تجربته في مكان واحد. إنها تجربة تُذكّرنا بأن الأدب العربي حركة دائمة بين الأمكنة والأزمنة، وأن الكاتب العربي الذي يعبر من المتوسط إلى الخليج يجسد هذه الحركة بوضوح، إذ يُحافظ على جذوره ويستوعب الجديد في الوقت ذاته. ولعل أثر هذه الرحلة الأدبية يبقى خالداً في الذاكرة، بين جذور ليبيا، حيث نشأ قلمي وترعرع، وفضاء السعودية، الذي تلألأ فيه وميضه ليُواكب نبض الساحة الأدبية المعاصرة. *ليبيا