الأستاذة المُرَتّبة

نشأ الفتى في بيت أبيه، وعرف فيه عضوًا من أعضائه، وركنًا من أركانه، فوجد فيه مثالًا للشخصية المنضبطة المرتّبة، التي تسير تفاصيل يومها على وتيرة ثابتة، ومهيع واحد؛ تعلّم منها في أوائل خطواته في الحياة ـــ وطوال ما يربو على أربعة عقود ـــ انضباطًا نادر المثال، ودقّة عزيزةَ المنال. إنها جدّته لأبيه: عائشة بنت عبدالله اللحيدان، امرأة أميّة متواضعة؛ تكاملت دروسها في الدقّة والانضباط مع دروس أستاذه الأهم وأستاذته الرائدة، وشكّلت معهم في بيت واحد ثلاثيًّا مميّزًا في مدرسة الدقّة والمنهجية والالتزام، وخطّـت في عقل الفتى وفؤاده صفحات زاهية من تلك الصفات. عاشت أستاذة الفتى ـــ وهو يراها أكثر من أربعين عامًا ـــ في برنامج لا يتخلّف؛ مواعيده ثابتة، والتزامها به دقيق؛ فوقت للاستيقاظ، ووقت للجلوس مع الأسرة، ووقت للخلوة، ووقت للطعام، حتى إنّ الدقائق تكاد تكون محسوبة في ذلك كله، يعرفه كل من حولها، ويتعاملون معها ويلتقونها في ضوئه. ومن دروس الأستاذة: عناية شديدة بالنظافة، في بدنها وملبسها، وفي غرفتها وأثاثها، تتابعها بنفسها، وتوليها اهتمامها، ولا تسمح بانتقاضها، ولا ترضى بانتقاصها، حتى إنها قد تجور على نفسها وطاقتها من أجل ألّا ينخرم شيء من مظاهرها. أضافت إلى ذلك عناية شديدة غير معهودة بالترتيب والتنظيم، فلكلّ شيء عندها مكان، ولا يذكر الفتى أنه رأى غرفتها في حال غير مرضيّة، أو هيئة غير متميّزة، جعلها ذلك مع ما قبله تظهر دائمًا بمنظر جميل، ومظهر جليل؛ فعلَّمت مَن درَس في مدرستها أنّ الهيئة الجميلة من غير بطَر ولا تكلُّف رداءٌ بهيٌّ يُزيّن الأخلاقَ الكريمة والصفات الحميدة. وهكذا عُرفت الأستاذة بقلّة كلام، وحُسن خِلال، وبعد عن القيل والقال، وكان من جميل صفاتها ما أدركه صاحبنا وعاصره سنوات من عمرها طوال، وهي تتعاهد ـــ على كِبَرها وسنّها ـــ والدتها الكبيرة، فتمضي معها يومين كل أسبوع كالخادمة المطيعة، لا تتخلّف عنهما حتى وارى الثرى والدتها، وانقطعت بالحياة صلتها، وبقي درس برّها علَمًا في فؤاد صاحبنا يراه شامخًا عاليًا. وكانت إلى العزلة وقلة المخالطة أقرب، وذلك إلى نفسها أحبّ، فصارت بيتيّة المزاج، لا تخرج من بيت ابنها إلا نادرًا بإلحاح من أحد أولادها الآخرين لتكرمهم بالمكث عندهم إلى حين. لكنّ ذلك لم يمنعها من الفرح بزيارة الأقارب لها، وتردّدهم عليها، وأُنسها بلقائهم والاطمئنان على أحوالهم. أحبّت الأستاذة بنتها الوحيدة وأبناءها حبًّا ملك شغاف قلبها، وكان حبًّا يظهر وإنْ حاولت كتمانه؛ في شفقتها الشديدة عليهم، وحرصها على مصالحهم، وترقّب أخبارهم. مات زوجها وهي في عزّ نشاطها، وأوج شبابها، فظلّت مع أولادها ترعاهم صغارًا حتى شقُّوا وارتفعوا، وبقيت بقربهم قرابة خمسة عقود، تملأ عينيها بلقياهم ومرآهم، وتشفي فؤادها بهم وأولادهم. يذكر صاحبنا موقفها حين جلس معها في غرفتها وحيدين مودِّعًا لها لقرب سفره للعمل في بلد بعيد، وما كانت تعلم بذلك، ففوجئت بخبره، وفوجئ بردّة فعلها ببكاء طويل وعميق، ودعاء صادق ورقيق، فحزن لغمّها، ودُهش بحنانها وحبّها، وسعد بقولها ودعائها، وكان ذلك في أواخر عمرها، ومن أواخر دروسها.