كائنات الحجرة المظلمة ..

نصوص تبحث عن الإنسان .

حين يفتح القارئ كتاب «كائنات الحجرة المظلمة» لعبدالله ناجي يكتشف منذ اللحظة الأولى أنه ليس أمام عمل روائي تقليدي أو نصوص قصصية مألوفة، بل أمام مشروع أدبي وفكري يختلط فيه السرد بالتأمل، والفلسفة بالشعر، والتجربة الفردية بالهم الإنساني العام. الكتاب يبدو أقرب إلى رحلة داخل الذات، رحلة محفوفة بالأسئلة، يختلط فيها الضوء بالظلال، وتتشابك فيها الأصوات الداخلية حتى تتحول إلى كائنات حية تسكن الحجرة المظلمة التي اتخذها الكاتب عنوانًا ومسرحًا لأفكاره. العنوان نفسه يفتح الباب أمام طبقات من المعنى، فالحجرة المظلمة ليست مجرد مكان واقعي، بل هي استعارة مكثفة عن الداخل البشري، عن تلك الزوايا التي نحاول كثيرًا إخفاءها أو الهروب منها، عن الأحلام التي لم تكتمل والمخاوف التي لم تُواجه والرغبات التي كُبتت والذنوب التي لم تُغفر. أما الكائنات فهي كل تلك المشاعر والأفكار والهواجس التي تتحرك في العتمة، أحيانًا بصوت عالٍ وأحيانًا كهمس خافت، لكنها تظل موجودة وفاعلة في تشكيل حياتنا ووعينا. هكذا يضعنا عبدالله ناجي منذ البداية أمام حقيقة أن الداخل ليس فراغًا صامتًا، بل فضاء يعج بالكائنات التي علينا أن نعترف بها كي نفهم أنفسنا. الكتاب يتكون من مقاطع نثرية قصيرة نسبيًا، لكنها مكثفة في صورها ومعانيها. الكاتب لا يقدم سردًا خطيًا ولا يحكي حكاية لها بداية وذروة ونهاية، بل يكتب أشبه ما يكون بخرائط وجدانية وفكرية، كل مقطع منها يشبه نافذة تُطل على جزء من الحجرة. أحيانًا نجد أنفسنا أمام نص يتأمل معنى الخوف، وأحيانًا أمام نص يستحضر اللذة والجسد والرغبة، وأحيانًا أمام مقطع يقترب من الإيمان والروح، وأحيانًا أخرى أمام نص يواجه الوحدة أو يستدعي الذاكرة. هذه البنية تجعل القارئ في حالة يقظة مستمرة، كأنه يتنقل بين ممرات مظلمة يحمل مصباحًا صغيرًا، يضيء هنا لحظة ثم يترك مكانًا آخر في العتمة، ليعود لاحقًا ويتأمل فيه من جديد. من أبرز ما يميز «كائنات الحجرة المظلمة» اللغة التي يستخدمها عبدالله ناجي، فهي لغة مشبعة بالمجاز والاستعارة، تحاول أن تمسك بما لا يُمسك به مباشرة. الكلمات هنا ليست مجرد أداة للتوصيل، بل أداة للكشف، فالكاتب يعرف أن الذات الداخلية لا يمكن أن تُشرح بأسلوب مباشر أو وصفي فقط، بل تحتاج إلى لغة توحي أكثر مما تُصرح، تلمّح أكثر مما تُفصح. لذلك يكثر في النص الحديث عن الظل والنور، عن الصوت والصمت، عن الحضور والغياب، عن الكائنات التي تتشكل في العتمة ثم تختفي أو تتوارى. هذه اللغة تمنح الكتاب بعدًا شعريًا، وتجعله أقرب إلى نصوص صوفية حديثة أو إلى تأملات وجودية ذات صبغة فنية. في الوقت ذاته، يحمل الكتاب ثقلًا فلسفيًا لا يمكن إغفاله. فعبدالله ناجي لا يكتب لمجرد التعبير الشخصي، بل ليضع القارئ أمام أسئلة وجودية كبرى: ما الذي يشكّل حقيقتنا؟ هل نحن ما نُظهره للآخرين أم ما نخفيه عنهم في الغرف المظلمة؟ هل يمكن أن نفصل بين ذواتنا الداخلية والعالم الخارجي، أم أن كل ما يحدث في الخارج لا يكتسب قيمته إلا بما يتركه في الداخل من أثر؟ هذه الأسئلة تجعل الكتاب قريبًا من تقاليد الأدب الفلسفي الذي لا يكتفي بوصف التجربة بل يحوّلها إلى مادة للتفكير والتأمل. من بين الكائنات التي يحضر الحديث عنها بكثافة نجد الخوف، وهو كائن يصفه الكاتب وكأنه مخلوق يتغذى على الظلام ويكبر كلما تجاهلناه. الخوف هنا ليس مجرد شعور عابر، بل قوة وجودية تتحكم في قرارات الإنسان وتكبّله. كذلك الوحدة التي تتحول في النص إلى رفيق دائم، جالس في زاوية الحجرة، يراقب بصمت لكنه يفرض حضوره. ثم هناك الرغبة واللذة، لا بوصفهما مجرد تجارب جسدية، بل بوصفهما كائنين داخليين يتنازعان مع الضمير والعقل، يكشفان عن هشاشة الإنسان وعن شوقه المستمر للتجاوز والانغماس في ما يحرّك حواسه. وعلى الجانب الآخر يظهر الإيمان، ليس كعقيدة جامدة بل كحالة من البحث عن معنى يتجاوز الحواس والماديات، وكأن الحجرة المظلمة رغم كل عتمتها تحتوي نافذة صغيرة على المطلق. القيمة الجمالية للكتاب تكمن في هذا التوازن بين المظلم والمضيء، بين ما يخيف وما يطمئن، بين الاعتراف القاسي بما نخفيه وبين الأمل في إمكانية تجاوزه. القارئ يجد نفسه متأرجحًا مع الكاتب بين الانحدار إلى أعماق العتمة والارتفاع نحو ومضات النور. هذه الحركة تشبه إيقاع الحياة نفسها، حيث لا وجود للنقاء المطلق ولا للظلام المطلق، بل تداخل مستمر بينهما، وصراع دائم يكوّن التجربة الإنسانية. ومن زاوية أخرى، يمكن قراءة الكتاب كنوع من السيرة الفكرية، فالمقاطع على قصرها تعكس خبرة الكاتب الشخصية في مواجهة ذاته وفي التأمل بما عاشه أو بما أحاط به من أسئلة. لكنه في الوقت نفسه يكتب بلغة تجعل التجربة شخصية وجماعية معًا، إذ يشعر القارئ أنه جزء من هذه الحجرة، وأن الكائنات التي يصفها ليست غريبة عنه. هنا تكمن قوة الكتاب، فهو لا يتحدث عن تجربة فردية معزولة بل عن تجربة إنسانية عامة، وإن كان يتخذ من لغة الفرد نافذتها. بعض القراء قد يجدون النصوص متشابكة أو غامضة أحيانًا، وقد يشعرون أن الكاتب يطرح أسئلة أكثر مما يقدم إجابات. لكن هذه سمة جوهرية للعمل، فهو لا يسعى لتقديم حلول جاهزة أو وصفات سريعة، بل لفتح أبواب الأسئلة وإشعال شرارة التفكير. في هذا المعنى، يصبح الكتاب جزءًا من تقليد أدبي وفكري يرى أن دور النص ليس أن يُطمئن القارئ بل أن يوقظه، ليس أن يمنحه اليقين بل أن يضعه في مواجهة الشك، لأن الشك وحده هو بداية البحث عن الحقيقة. يُحسب لعبدالله ناجي أنه نجح في أن يصنع لنفسه أسلوبًا متفردًا، يجمع بين قوة التعبير الأدبي وعمق الرؤية الفلسفية. كتابه ليس طويلاً، إذ يقع في ما يقارب 122 صفحة، لكنه يحمل من الكثافة ما يجعل قراءته تستغرق وقتًا أطول من حجمه، لأن كل مقطع يستدعي تأملًا وربما إعادة قراءة. من هنا يمكن القول إن الكتاب يصلح لأن يكون رفيقًا يُقرأ على مهل، لا دفعة واحدة، بل على جرعات، حتى يتيح للقارئ فرصة التفاعل مع الكائنات التي يثيرها في داخله. بعد الانتهاء من القراءة يخرج القارئ بإحساس مزدوج: من جهة هناك شعور بالثقل، لأن النص يجبره على مواجهة ما يحاول عادة تجنبه أو كنسه تحت البساط، ومن جهة أخرى هناك شعور بالتحرر، لأن الاعتراف بوجود هذه الكائنات هو الخطوة الأولى للتعامل معها وربما تجاوزها. هذا التوتر بين الثقل والتحرر هو ما يمنح الكتاب أثره العميق، ويجعل أثره يستمر حتى بعد إغلاق صفحاته. في النهاية، يمكن القول إن «كائنات الحجرة المظلمة» عمل يضع الأدب في مكانه الأصيل، باعتباره وسيلة للكشف عن الذات وعن الوجود، وباعتباره أداة لطرح الأسئلة التي تهم الإنسان في كل زمان ومكان. إنه كتاب عن الخوف والوحدة والرغبة والإيمان والذاكرة والذنب، لكنه أيضًا كتاب عن الأمل والقدرة على مواجهة المجهول. قد لا يقدم أجوبة نهائية، لكنه يفتح نوافذ كثيرة، ويترك القارئ في حالة من التفكير المستمر، وكأن الحجرة المظلمة لم تعد مكانًا مغلقًا بل فضاءً مفتوحًا على احتمالات لا تنتهي. وهكذا ينجح عبدالله ناجي في أن يمنح نصوصه مكانة خاصة في الأدب العربي المعاصر، مكانة النص الذي يجرؤ على الدخول إلى العتمة ليبحث عن النور، ويجعل القارئ شريكًا في هذه المغامرة الوجودية والجمالية في آن واحد.