ما يلفت الانتباه في مدوّنة علي الحازمي الشعرية حضور القصيدة إبداعا ومفهوما ،إذ نجد العديد من القصائد والمقاطع التي يتحدّث فيها الشاعر عن رؤيته للشعر وعن وظيفته وعن مناخاته فإذا بالقصيدة تتحدّث عن نفسها وترى ذاتها في مرآتها. ويسمّى هذا التوجّه في النقد الشعريّ الحديث “الميتاشعر” أو“الميتاشعريّ” أو”الميتاشعريّة”أو“القصيدة الواصفة” ،أي القصيدة التي تصف نفسها بنفسها،. في هذا النوع من القصائد يصف الشاعر حالات قصيدته من الداخل، فيصبح الشعر موضوعا من مواضيع الشعر. ويقوم الشاعر بلغته الواصفة بالكلام عن الشعر ومتعلّقاته من مفاهيم وحدود ولغة ورؤية ومصادر إلهام. بل يذهب البعض إلى أن القصيدة الواصفة قد تهتمّ بسيرة الشاعر وبسيرة القصيدة وهي تتشكّل وبعلاقات الذات الشاعرة بذاتها وبالآخر. كما يمكن أن تتناول ثنائية التراث والحداثة، أو ثنائية الحقيقة والمجاز، بل إنّها يمكن أن تدافع عن توجّه شعريّ بعينه ،أو نمط شعري مخصوص.”الميتاشعر” هو الشعر على الشعر أو حديث الخطاب الشعري عن الخطاب الشعري، فهو أشبه ما يكون بتنظير داخليّ أو ضمنيّ لمآتي الشعر و مآلاته ولهواجس العمليّة الشعريّة والجدوى منها ووظائفها...فهو بشكل أو بآخر يعكس قلق الشاعر الحديث والمعاصر ووعيه الحاد بأدوات إبداعه وبخصائص العملية الشعرية وما يعتريها من تحولات وما يواجهها من صعوبات وبذلك يغدو الميتاشعر ظل الشعر ووجه القصيدة الآخر، لا الإبداعي فقط ،بل الوصفيّ والتأملي ،لأن القصيدة تتحدث وهي تنكتب عن كيفية انبثاقها وكيفية تصور الشاعر لها ومنظوره الشعري المخصوص وعلاقتها بتجربة الشاعر وأسلوبه ورؤيته ككلّ. فخاصية الميتاشعريّ الجوهريّة في شعر الحازمي إذن هي أن يجعل القصيدة في نفس الوقت نصّا وميتانصّا. أو بلغة أخرى الإطار والصورة في الآن نفسه. والحازمي هنا ينغرس في البيئة الشعرية العربية الحديثة والمعاصرة، إذ ازداد اهتمام الشعراء بالميتاشعر في العصر الحديث بعد ظهور الشعر الحرّ خاصة، وهذا النمط الشعري يتطلب عند ظهوره مدوّنة نظريّة تبيّن مواطن الاختلاف فيه عن الشعر القديم، ومظاهر التجديد فيه، ولم يكن كاتب هذا الشعر بمعزل عن هذه المدونة النقدية بل كان يتحرك في فلكها ويدور حول قطبها. فتضمّن شعره ،لذلك، أسئلة الشعر الحر او شعر التفعيلة، وتوسع انشغال الشاعر بالأسس الجمالية والمفاهيم المعرفية ،وهذا ما عمّق وعيه النقدي الذاتي. ومن هنا أكثر شعراء الحداثة من الحديث عن الشعر، فلم يقتصروا على مقاطع يصورون فيها رؤيتهم للشعر بل خصصوا لذلك قصائد كاملة موضوعها الشعر. فالمتأمل في للمدوّنة الشعرية العربية الحديثة يلاحظ الحضور القويّ للخطاب الميتاشعريّ في الملفوظ الشعري بصورة عامة. فنجد هذا الخطاب في شكل مكوّن جزئي لدى كثيرين، وفي حالات أخرى نجده مكوّنا شاملا يكتنف كامل النص الشعري. ونلمس هذه الحالات لدى الشعراء المعاصرين بوجه خاص. وتعتبر مجموعة “غصن وحيد للغناء” من أبرز مجموعات علي الحازمي الحافلة بالميتاشعريّ، إذ يبرز فيها رؤيته المخصوصة للشعر و لتوجهاته الشعرية. فعبارة “لم التفت يوما إلى الماضي” في قصيدة “الإقامة في الصدى” تعبر عن ابتعاد الشاعر عن التقليد رغم أن الشعراء القدامى أو” الاسلاف”، تركوا أثرا ما في نفسه وفي شعره و“أيقظوا نايا حزينا في حنايا الروح” . فهو يسير دوما إلى الأمام، نحو غده، نحو مستقبله “مشيت إلى غدي”. ولكنه رغم هذا التقدم في الزمن يبقى الشاعر يلاحق نور الحياة في عينيْ الطفل الذي كانه، والطفل الذي أصبح عليه، والطفل الذي سيكونه، فحياة الشاعر هي طفولة مستمرّة، وبدايات لا تنقطع أسئلتها ولا دهشتها ولا ملاحقتها للمجهول البعيد. فالشعر بالنسبة إلى الشاعر طيران وتحليق وكشف متواصل لغياهب الغياب، لذلك ينأى بنفسه عن الحياة المادية السطحية المتكلسة و”المعدنية” كي يقترب من “الفراغ” ويحدّق فيه. ولا شكّ أن هذا الفراغ، هو ذلك العالم الهلامي الذي يسبح في فلكه الشاعر، أو هو ذلك العالم الموازي للوجود الفيزيائي أي عالم الشعر الروحي والشعوري. من ذلك العالم الروحي الهلامي يقتنص الشاعر معاني الوجود الجوهرية العميقة، فيبني قصيدته ومن ثمة يبني ذاته الشعرية. ويبرز الشاعر أيضا علاقته باللغة، فيشير إلى أنها الرحم الذي احتواه وخرج منه، فالشاعر هو لغته، وولادته الحقيقية تكون منها و فيها، ولا يخفى هنا البعد الحضاري والثقافي الذي احتضن الشاعر، ولكنه يذهب إلى أبعد من ذلك حين يعتبر الكتابة الشعرية هي المؤسس الأساسي لوجوده وهويّته، لأن اللغة هي الشعر والشعر هو اللغة، فلا انفصال بينهما. فهذه اللغة عنوانه ومأواه، لكنّ هذه اللغة، أيضا، قلقة مثل الريح، لا تهدأ ولا تنام، لذلك يعيش معها الشاعر حياة التيه و”التهيام” بحثا عن سبل الإبداع وعن مسالك بِكر للقول الشعري. وهذه اللغة أيضا هي لغة العطش، والتعطّش للمعرفة الوجدانية، وللحرية المطلقة، وللحياة الحقيقية البعيدة عن الزيف وعن “قفار الروح”. الشاعر “على قلق كأن الريح تحته”، يتيه في لغته بحثا عن جوهر الشعر الذي هو جوهر الوجود. فهو لا يستقر على حال أو فلْنقل إنه “لا ينام على لغة” على حد عبارة الشاعر أنسي الحاج. ويتجلّى ذلك في تواتر عبارة “التيه” في شعره، فالشاعر كتلة من الحالات والأوضاع النفسية المتناقضة، فكأنّه متصوّف يعتكف في حضْرة الشعر. أو هو المجنون الذي يتيه في دروب الوجود بحثا عن أجوبة تشفي غليله، وبحثا عن ذاته الغامضة يُجلّي غشاواتها وضبابها. ولكي يصل الشاعر إلى المعنى المنشود من الوجود يجمْد اللحظة لأنّه “حارس الأحلام من غدها “يحميها من الذوبان في الغد، ومن التلاشي فلا شعر دون حلم، ولا يستطيع الشاعر أن يعيش دون أحلام. لذلك على الحلم ان يتواصل ولا يموت كي يتواصل الشعر ولا ينحني لخناجر الزمن وغدره. فالشعر إذن بالنسبة للشاعر هو حلم يسعى إلى بلوغه، مثلما يسعى كل شاعر إلى كتابة قصيدته المثلى، هو لا يبلغها و لكن يبقى يحلم بها. فما أشبه الشعر بالشرك والمصيدة التي يقع فيها الشاعر ولا يستطيع أن يتخلّص منها، الشعر هو ذلك القدر الذي يصيب الشاعر، فلا فكاك! لكنّه شرك لا يقع فيه أيّا كان. يقع فيه فقط مرهف الإحساس الذي طلّق زيف الوجود و تعلقت عيناه بما وراء الظاهر والمسطّح أو الفيزيقي، واختار أن يحلق في الميتافيزيقا وفي عالم الأرواح المجنّحة. ففي شعر الحازمي عموما نلاحظ حالات وأوضاعا لا يعيشها إلا الشاعر، وفيه تصوّراته عن الشعر ،ونظرته إليه وعلاقته به. فلا أحد من الشعراء يختار أن يكون شاعرا، وكم هو شاقّ أن تسافر وراء الخفي المستتر و”الغيب” البعيد المجهول، وكم هو مرهق أن تتلقى الوحي الشعري فيُثقل عليك ويطالبك بأن تصوغه عبر الكلمات! وكم هو معذّب ان تعيش توقا روحيا مستمرّا إلى تلك القصيدة التي لم تُقَلْ بعد! إنه الم وعذاب ولكنه لذة أيضا، هي لذة في أنّه ترحال وسفر لا يهدآن يعطيان الوجود الإنساني معنى وغاية.، ويجعلان الشاعر في حالة بحث وكشف متواصلين. ويجعلان منه أيضا طفلا مسكونا بالدهشة والذهول وطرح الأسئلة. الشاعر الطفل هي الصورة التي تتواتر في شعر الحازمي، فالشاعر كالطفل حيوي كثير الحركة لا ينفك يطلب المعرفة، فإذا كانت حركة الطفل وحيويته حيوية مادية جسدية، فإن حركة الشاعر هي حركة وجدانية وروحية. لقد أُصيب الشاعر مثلما أُصيب سابقوه من الشعراء بلعنة الشعر الجميلة المشرقة، تلك اللعنة التي بصّرته بالآتي فرحل نحوه، وعاد إليه الماضي ف”أسطره”، فالزمن الشعريّ هو زمن سائل يشقّ روح الشاعر ونهره الباطني فيراه ويسمع خريره وهمسه. وتظهر هنا صورة الشاعر النبي الذي يجري وراء أحلامه وآماله وكأنّه يقيم في الآتي وليس في الحاضر، بل هو يتنقل بين الأزمنة بحرية. فهو كائن مطلق، وهو ابن كل الأزمنة.