في اشتغالها على تسريد سياقات روايتها الصادرة حديثًا «سولاريكا»( )، قدّمت الكاتبة التونسية فصيلة مسعي قيمة المحبة المتماهية مع قيم التسامح والتنوع الثقافي، في سياق من المرجعية الواقعية لجدوى التشبث بالحياة، والانتصار للأمل الفاعل في تذويب إشكالات الأزمنة وتجاوز تباينات الأمكنة. المحبة والبُنية السردية استهدف هذا العمل تسريد علاقة عاطفية، نشأت بين الفتاة الإيزيدية العراقية «سولافة»، والشاب ــ العراقي أيضًا ــ «ياسر». من خلال معالجة هذه التجربة الوجدانية، من زاوية تداعياتها في حياة المرأة. تلك التداعيات التي أفضى إليها واقع العراق المستعر بالصراعات والحروب، وما ترتب على ذلك من تمزيق لهذه التجربة بفراق الحبيبين، اللذين لم يرضخا لمستجدات الأسى، واحتفظ كل منهما بوفائه للآخر، حتى تجاوزا محطات الشتات، واحتفت بهما لحظة اللقاء التي تجلّت محطةً زاهية، توقف عندها تسريد الأحداث، وتخلّقت منها حياتهما الجديدة، المترعة باستشرافهما السعادة التعويضية عن ما فتك بهما، من شراسة المعاناة والعذاب، منذ افتراقهما حتى التقائهما. ولِما تمثّله تجربة الحب ــ في هذا العمل ــ من محورية فاعلة في تسريد سياقاته ومضامينه، فقد امتدت هذه المحورية إلى طرفي التجربة («سولافة»، و»ياسر»)؛ إذ كانت الحبيبة هي شخصية العمل الرئيسة، بمعية شخصية الحبيب، ومعهما عددٌ من الشخصيات الثانوية الفاعلة في تنامي الأحداث وتسريدها. من مثل: الشاب السوري «محمود» صديق «ياسر» في بلد المهجر. والفنان التشكيلي السوري «عبد القادر خليل». يبدأ الحيز الزمني السردي، من اللحظة التي وُلِد فيها طرفا هذه التجربة، في أوائل التسعينيات من القرن العشرين الفائت، حتى اللحظة المعاصرة. أمّا الحيز السردي المكاني، فقد بدأ من مسقط رأسيهما في بلدهما العراق، تحديدًا في «بعشيقة»، و»لالش»، وانتهى بالمدينة التي جمعت بينهما «نيويورك»، في الولايات المتحدة الأمريكية. تماهت الشخصية الرئيسة «سولافة»، في البلد الذي حظيت فيه تجربتهما بتلك اللحظة الزاهية «أمريكا». وقد تجسّد هذا التماهي في عنوان العمل «سولاريكا»، الذي قامت صياغته على نسقٍ اشتقاقي، تمثل في اشتقاق جزئه الأول من («سولافة»/ سولا)، واشتقاق جزئه الثاني من «أمريكا/ يكا»؛ إذ تجلّت قصدية هذه الصياغة الاشتقاقية في الإشارة إليها، ضمن إحدى المساحات السردية، التي تحيل على أن هذا العنوان «إدغام بين اسمي سولافة وأمريكا»( ). بُنية المحبة استهل هذا العمل اشتغاله السردي ــ على هذه العلاقة بين الحبيبين ــ من تلك اللحظة القاسية، التي اشتركا في احتساء مرارتها؛ إذ كانت «سولافة»، ضمن جموع الأجساد المتدافعة حول مصدرٍ لتوزيع الأرغفة، في إحدى جولات الحرب التي مزّقت العراق. انهارت مُرْهقةً، سقطت على الأرض، فسارع «ياسر» إلى مساعدتها على النهوض. من هذا الخيط السردي المكتنز ماهية الحرب والصراع، تنامى تسريد الحكاية، بصيغة أكثر استنادًا تأسيسيًّا على تداعيات الأحداث الدامية، التي عاشها العراق عام 2003، وما أفضت إليه من كوارث. منها تلك الكارثة المأساوية التي، شهدت فيها «سولافة» وحشية الإجهاز على حياة أفراد عائلتها كلهم، كما تناسلت منها المآسي في حياتها، فعايشت تجربة السجن المريرة بما فيها من إذلال واغتصاب وامتهان كرامة. وبعد أن توافرت لها فرصة الهروب من السجن، كانت منطقة «العين» الحدودية في انتظارها، ومنها واصلت هروبها على متن سفينة خاصة بتهريب الثروة الحيوانية. وصلت إلى اليونان لاجئةً غير شرعية. وهناك، تمكّنت من استكمال وثائقها بفضل امرأة يونانية متطوعة. وبعد أن نشأت صداقتها مع فتاة أمريكية، تحدثت معها عن مأساتها، فوفّرت لها فرصة السفر إلى بلدها «أمريكا»، كما وفّرت لها منحة دراسية في إحدى جامعاتها. غادرت «سولافة» اليونان، إلى أمريكا، فعاشت فيها ليالي الغربة والوحدة والحنين إلى مراتع الطفولة، كما تداعت ذكرياتها الوجدانية، وماضي حبها لـ»ياسر»، الذي لم تكن تعرف مصيره، فتقطع قلبها حنينًا إليه( ). قام تسريد أحداث هذه التجربة العاطفية، على نوعٍ من المزاوجة بين تداعياتها في حياة الحبيبين. إذ ظل «ياسر» وفيًّا لحبيبته، التي ضاعت منه، وانقطعت عنه أخبارها منذ مأساة القضاء على عائلتها. إلى أن عرف من بعض أقاربها، أنها تقيم في «نيويورك»، فشد الرحال إلى هناك، وأقام في منزل صديقه السوري «محمود»، طيلة بحثه عنها( ). لم يدر في بال «سولافة» شيء من احتمالية أن يكون الحبيب الغائب متواجدًا على مقربة منها، في المدينة نفسها التي تقيم فيها. حتى تلك الليلة الاستثنائية، التي قضتْ شطرًا منها في إحدى دور السينما. وفي لحظة خروجها منها، لمحت شخصًا يشبه «ياسر»، حاولت الوصول إليه، لكنه كان أسرع في المغادرة على سيارته. وعلى ذلك، فطيفه لم يختف من خيالها، وتشبّثت بشرارة الأمل التي قُدِحت برؤيتها له. من هذا الموقف الاستثنائي، وما ترتب عليه من اخضرار الأمل، اختط العمل سياق انفتاحه على حدث اللقاء بينهما. وهو ما تجسّد واقعًا في قدوم «ياسر» إلى شقة «سولافة». ثم تكررت لقاءاتهما، وتداعت ذكريات الماضي بأحزانه وقسوته، وتحدّث كلٌّ منهما مع الآخر ببعضٍ مما انسحق به من معاناة الرحلة القاسية، وبعضٍ من عذابات الشوق والحنين وتباريح اللهفة. من تفاصيل لقاءات الحبيبين، تدفقت الحياة في تجربة حبهما، فأورقت أغصانه؛ واحتفت السياقات السردية باخضراره محبةً وغرامًا ومودة متبادلة، من مثل هذا التجلي الساحر: «طوّقها بنظراته قبل أن يطوق خصرها بيديه ويجذبها إليه ويحنو عليها في قبلة طويلة أنستهما العالم وما فيه»( ). سردية المحبة والسلام تنوّعت أحداث العمل في سياقات سردية مختلفة، بمضامين متعددة ومتشابكة، فتبلورت ــ بذلك كله ــ الرؤية السردية في تشخيص إشكالات الحياة، ومعالجاتها الكامنة في الانتصار لقيم المحبة، بوصفها مرجعيةً واقعية لإرساء السلام بين المجتمعات الإنسانية، مهما اختلفت أعراقها وثقافاتها. وقد ورد تسريد هذا النسق القيمي على لسان صديق الحبيبين، الفنان التشكيلي السوري المهاجر «عبد القادر خليل»، المقيم في «إسبانيا»؛ فمن ما تحدث عنه في مكالمته الهاتفية مع «سولافة»، قوله: «أكبر المكروهات لي عدم استقرار السلام وعدم الاحترام. السلام والحب بين الإنسان وأخيه الإنسان هو شغفي الطويل، ولست أنا أكثر من غيري محبة للسلام... أغلب من يعيش على هذا الكوكب يتمنى أن يعيش بسلام»( ). وإلى ذلك، فقد وردت ــ في سياقات أخرى ــ عددٌ من الإشارات السردية إلى قيم المحبة والسلام، بوصف هذا المسار القيمي خيارًا إنسانيًّا ناجعًا؛ لانتشال البشرية من واقعها المثخن بالصراعات والحروب والتدافع الآلي غير المحسوب. *كاتب وناقد يمني. أكاديمي في جامعة عدن.