«أوبرا أم كلثوم»..

أيقونة مصرية تعيد تعريف المسرح الغنائي العربي.

لطالما كان فن الأوبرا والمسرح الغنائي يمثل تحدياً مزدوجاً في الثقافة العربية: تحدي التبني لفن غربي معقد، وتحدي التأسيس لإنتاجات عربية أصيلة. منذ أول عرض لأوبرا عايدة في القاهرة عام 1871، والمشهد العربي يبحث عن بصمته الفريدة التي توازن بين أصالة القصة وروعة الأداء الغنائي الدرامي. في خضم هذا التحدي التاريخي، يطل علينا عرض “أم كلثوم: دايبين في صوت الست” ليجيب على السؤال الأهم: هل يمكن لعمل مسرحي أن يتجاوز مجرد السيرة ليصبح حدثاً فنياً وطنياً وإقليمياً يكتب سطراً جديداً في تاريخ المسرح الغنائي العربي؟ هذا الإنتاج، الذي يجسد عظمة “الست” أم كلثوم كوكب الشرق وسيدة الغناء العربي دون منازع عبر اكثر من 75 عامًا وبمناسبة مرور 50 عامًا علي وفاتها، نجح في كسر حاجز الصورة الذهنية الراسخة، مقدماً عرضاً جماهيرياً مبهراً وأسطورياً. وبمجرد مشاهدة هذا العمل الاستثنائي من تأليف الدكتور مدحت العدل وإخراج المايسترو الشاب أحمد فؤاد، يخرج المرء بشعور مؤكد: نحن أمام ميلاد فني وثقافي جديد. لقد استند العمل إلى طاقات النجوم الشابة الواعدة، مقترناً بعبقرية إخراجية وتقنية لم يسبق لها مثيل في عروضنا العربية، مما وضع أساساً متيناً لمشروع يمكن أن نطلق عليه بكل ثقة “أوبرا أم كلثوم” للمستقبل. فنون المسرح الغنائي: الأوبرا، والأوبريت، والمسرحية الموسيقية تتباين الأشكال المختلفة للمسرح الغنائي في طبيعتها ودرجتها، حيث تُمثل الأوبرا (Opera) أرقى وأشد هذه الفنون تعقيداً، وتتميز بكونها عملاً درامياً يتم فيه غناء النص بأكمله دون أي حوار منطوق (باستثناء أجزاء الإلقاء المُلحَّن - Recitative). وغالباً ما تتناول الأوبرا مواضيع جادة أو مأساوية أو ملحمية وتعتمد على أوركسترا كبيرة وتتطلب فخامة في الإنتاج وأصواتاً ذات تدريب كلاسيكي عالٍ. أما الأوبريت (Operetta)، فيُعد شكلاً “خفيفاً” أو مصغراً من الأوبرا، حيث يهدف إلى الترفيه بشكل أساسي بمواضيع كوميدية أو رومانسية بسيطة. والفرق الجوهري يكمن في أنه يمزج بين الأغاني والألحان والحوار المنطوق غير الملحن، كما تكون موسيقاه أخف وأكثر بساطة وملاءمة للرقص والاستعراض. في حين أن المسرحية الغنائية الموسيقية (Musical Play) هي الشكل الأكثر حداثة ومرونة، حيث تخلط بوضوح بين المشاهد التمثيلية والحوار المنطوق مع فواصل غنائية وراقصة. وقد وُجد هذا الشكل ملاءمةً أكبر للذوق العربي في البدايات، كما يتضح من أعمال رواد المسرح الغنائي العربي. المحاولات العربية للأوبرا شهدت المحاولات العربية لتبني فن الأوبرا تطوراً ملحوظاً، بدأ مع دخول الأوبرا إلى العالم العربي مع افتتاح دار الأوبرا الخديوية في القاهرة عام 1869، حيث عُرضت أوبرا عايدة لفيردي بالإيطالية عام 1871. ورغم أن العروض في البداية كانت لأعمال غربية غالباً، إلا أن الجهود انقسمت لاحقاً بين تعريب الأعمال العالمية وتأليف أعمال أصيلة باللغة العربية. من أبرز محاولات التعريب الجدية التي ظهرت في مصر في ستينيات القرن الماضي كانت تقديم أوبريت “الأرملة الطروب” (The Merry Widow) باللغة العربية عام 1961، تلتها أوبرا “لاترافياتا” (La Traviata) عام 1964، بمبادرات رائدة شاركت فيها فنانات مثل الدكتورة رتيبة الحفني. كما جرت محاولات لتقديم أعمال لموزارت مثل زواج فيغارو باللغة العربية. أما على صعيد الأعمال الأصيلة، فبالإضافة إلى أوبرا “عنتر” (1914) التي كُتبت عن قصة عربية، شملت أعمال لاحقة أوبرا “ابن سينا” (2003) في قطر. وفي العقد الأخير، تواصلت الجهود بظهور فرق مثل “أوبرا لبنان” عام 2017، كما شهدت الساحة أعمالاً معاصرة مثل العمل الأوبرالي والسينمائي “كما لو أن الفاجعة لم تبتلني في الليل” (2023). وتُعد أوبرا “زرقاء اليمامة” (2024) في السعودية أحدث وأكبر إنتاج أوبرالي باللغة العربية، مما يدل على استمرار الحركة نحو صقل ملامح الفن الأوبرالي بلسان عربي وروح أصيلة. لمسة الإنتاج المتميزة: بصمة مجموعة العدل إن الجودة الفنية والتقنية التي ظهر بها عرض “أم كلثوم: دايبين في صوت الست” لم تكن وليدة الصدفة، بل جاءت امتداداً لسجل حافل من الإبداع الإنتاجي الذي تشتهر به مجموعة العدل. لطالما عرفت المجموعة بتبنيها مشاريع فنية ذات قيمة عالية وتميز، سواء في السينما أو الدراما أو المسرح، مع تركيزها على تقديم محتوى يعزز الهوية المصرية ويخاطب الجمهور العربي بأعلى المعايير. هذا الإنتاج الضخم يؤكد التزام المجموعة ليس فقط بتقديم عمل ناجح حالياً، بل بوضع حجر الأساس لمشروع ثقافي وفني مستقبلي طموح يهدف إلى إحياء المسرح الغنائي الكبير بمعايير متقدمة، وهو ما يضعها في صدارة الكيانات الإنتاجية القادرة على تحقيق هذا التحول النوعي على الساحة العربية. نص مدحت العدل: إنصاف إنساني ودرامي كانت الركيزة الأساسية لهذا النجاح هي الرؤية الدرامية في نص الدكتور مدحت العدل. لم يكتفِ العدل بتقديم سيرة تقليدية، بل انغمس في الجوانب الإنسانية لأم كلثوم، مُظهراً أنها كانت إنسانة عظيمة وبسيطة قبل أن تكون الفنانة الأبرز في الشرق. النص أنصف كوكب الشرق إنسانياً من خلال تناول جوانب لم يتطرق إليها أحد من قبل، معتمداً على الوثائق وبموضوعية عالية بعيدة عن الإسفاف. الأهم من ذلك، أن العمل كرّم جميع المبدعين الذين رافقوا مسيرتها، بدءاً من أحمد رامي تأليفاً، مروراً بـ محمد القصبجي ورياض السنباطي تلحيناً. هذا الإنصاف ضروري، خاصة وأن الدكتور العدل، بصفته رئيساً لجمعية المؤلفين والملحنين والناشرين (ساسم)، يدرك قيمة الكلمة واللحن. كما أنصف العمل فنياً وإنسانياً حتى أشد منافسيها، مثل منيرة المهدية ومحمد عبد الوهاب، برقي شديد. الإخراج التقني والرؤية المستقبلية لأحمد فؤاد المخرج الشاب العبقري أحمد فؤاد قاد هذا العمل إلى مستوى عالمي. احمد فؤاد، تربي صغيرا في مدرسة الاستاذ فؤاد المهندس ثم تخرج من أكاديمية الفنون في إيطاليا ومركز الإبداع الفني بدار الأوبرا المصرية وبعد احد ابرز مساعدي المخرج الفذ خالد جلال، ولقد أثبت أنه بحق وصدق ملكًا للإبداع الفني المسرحي وخصوصًا الاستعراضي الدرامي. ولقد اعتمد الإخراج على أحدث تقنيات العرض المسرحي، من شاشات رقمية ومزج لافت للمشاهد الواقعية الأدائية والافتراضية الرقمية . كما تميز طاقم العرض بأكمله، بقيادة المخرج، بدا كـمايسترو يقود أوركسترا كاملة في تناغم رهيب ، مما جعل الجمهور يتابع كل نبضة وحركة بتفاعل غير مسبوق علي خلفية اغاني ام كلثوم . إن هذا المستوى من الإتقان، بمساعدة طاقم المخرجين المنفذين علي رأسهم محمد مبروك، يضع العرض في مصاف الأعمال العالمية الكبرى. أتوقع لهذا العمل، بكل صراحة ودون مبالغة، أن يصبح النموذج الحديث لـ “أوبرا أم كلثوم” ووريث النجاح العالمي لأعمال بحجم “أوبرا عايدة” لفيردي. الرهان على جيل الشباب: براعة جماعية وفردية مسرحية “أم كلثوم: دايبين في صوت الست” كانت بحق بطولة جماعية لكل عناصرها. الرهان الأكبر كان على الممثلين الشباب، الذين أثبتوا أن مصر تزخر بمواهب قادرة على النجومية الطاغية. واغلبهم من أكاديمية الفنون في مصر كما اكدت ذلك الاستاذة الدكتورة غادة جباره رئيس الاكاديمية حيث تم اجراء كافة اختبارات الترشيح والتدريب والبروفات في الاكاديمية .. ويأتي على رأس هذا الفريق المتميز في الإبهار، تألقت الفنانة الشابة ملك أحمد التي جسدت دور أم كلثوم الصغيرة، بينما جسدت الفنانة أسماء الجمل محمد شخصية أم كلثوم الكبيرة، مقدّمتين أداءً غنائياً وتمثيلياً استثنائياً. شاركهما في هذا التوهج نخبة من الأسماء الصاعدة التي برعت جميعاً دون استثناء على مدار ثلاث ساعات هي مدة العرض، حيث قام أحمد الحجار بدور محمد عبدالوهاب، وسعيد سلمان بدور أحمد رامي، وهاني عبدالناصر بدور رياض السنباطي، ويوسف سلامة بدور محمد القصبجي، بينما جسد عماد إسماعيل شخصية الشيخ أبوالعلا محمد، وليديا لوتشيانو منيرة المهدية، وهدير الشريف زوجة أحمد رامي. كما تألق في تجسيد الأدوار الرئيسية كل من عمر صلاح الدين (إبراهيم البلتاجي الأب)، ومنار الشاذلى (سيدة البلتاجي الأخت)، وإسماعيل السيد (خالد البلتاجي الأخ)، بالإضافة إلى فتحي ناصر في دور بليغ حمدي، ومحمد أيمن في دور محمد فوزي، وأحمد عبدالعزيز (عمر الخيام)، وأسامة مجدي (الصحفي محمد عبدالمجيد)، والسيد أحمد محسن (الصحفي صالح)، وحسين روبين (زعيم الآلاتية). هذه النماذج الشابة لم تقتصر على التمثيل فحسب؛ بل امتد الإبداع إلى الجانب الموسيقي، حيث تولى الملحنان الشابان خالد الكمار وإيهاب عبد الواحد مهمة التأليف الموسيقي والألحان الجديدة للعرض، ليؤكدا أن الإبداع الحقيقي لا يعترف بالعمر. كما كان لعناصر الإبهار التقني بصمة لا تُمحى، في مقدمتها الديكور المبدع للشاب محمود صبري، والأزياء التي صممتها ريم العدل لتمثل أدواراً رئيسية في سياق العرض. إن عظمة هذا العمل تكمن في قدرته على ملامسة مكانة وروح أم كلثوم بقوة لم يسبق لها مثيل، مؤكداً أنها معجزة فنية خالدة ولدت من ريف مصر العظيم، لتتجدد عبر الأجيال، في تحدٍ بارز للزمان والمكان. هنات التنظيم والطموح الفني الجامح : على الرغم من الإبهار الفني والريادة التي حققها العمل في مسيرة المسرح الغنائي العربي، لا يمكن تجاوز بعض الملاحظات التي تؤثر على التجربة الكاملة وتحد من طموحه العالمي. على المستوى التنظيمي، كان هناك ضغط واضح بسبب ضيق المكان المخصص للجمهور الغفير، مما أدى إلى ضعف مستوى الخدمات في مناطق الانتظار والاستراحة. عانت مناطق تناول المشروبات ودورات المياه من ضعف شديد في الخدمة أمام هذا الإقبال، وهو أمر يستوجب المراجعة لضمان راحة الحضور تليق بمستوى الإنتاج. فنياً، ورغم مهابة مشهد وفاة أم كلثوم، كان اختيار اللون الأسود لملابسها في مشهد النهاية قاسياً بعض الشيء، وربما كان اللون الأبيض أو المزدوج أكثر تعبيراً عن الخلود الذي سعى إليه العمل. كما أن النقلة السريعة والمفاجئة في نهاية العرض من حالة الحزن والشجن والروحانية إلى حالة من البهجة والصخب والـ”روشنة” جاءت دون تمهيد درامي كافٍ، وقد تكون محاولة حادة ومباشرة لـجذب المزيد من فئة الشباب عبر إيقاع موسيقي سريع. تأكيد لميلاد نموذج رائد في المسرح الغنائي العربي : في الختام، يمثل إنتاج “الست أم كلثوم: دايبين في هواها” نقطة تحول حقيقية لا في المسرح المصري وحسب، بل في مسيرة المسرح الغنائي العربي بأكمله. إنه احتفاء عميق بذكرى سيدة الغناء العربي، وتأكيد لولادة جيل مبدع قادر على المنافسة عالمياً وترسيخ الهوية الفنية للمنطقة. عندما يقترن هذا الإبهار بعبقرية نص الدكتور مدحت العدل الذي أنصف الأسطورة إنساناً وفناناً، يصبح لدينا عمل يستحق كل التقدير. لقد ودّعنا المسرح ونحن على يقين بأننا شهدنا ميلاد مشروع فني خالد، يستحق أن يكون النموذج الرائد الجديد للمسرح الغنائي العربي، ووريث النجاح العالمي لأعمال بحجم “أوبرا عايدة” في “أوبرا ام كلثوم “ .