التفاهة بين الذاتية و الموضوعية والمعرفيّة و المزاجية..

قراءة في مفاهيم التفاهة وثقافتها وما يدورحولها من حوارات.

لم يكن تجاهل هذا الموضوع ممكنا بعد هذا الحيّز الواسع من الاهتمام الذي حظي به ؛ ذلك أنه يتعلق بمنظومة قيميّة و عملية ذات أهمية بالغة في تشكيل الوعي وتوجيه السلوك و بناء الهوية، ومن الطبيعي أن نبدأ بتفكيك هذا المفهوم ابتداءً من جذوره اللغويّة التي تحمل دلالاته الأولى وتؤشِّر إلى تطوّرها وحمولتها التي اكتسبتها عبر مسارها التاريخي ،وصلتها بمجمل السياقات التي انتظمتها وغذّتها بمضامين جديدة عبر العصور شأنها في ذلك شأن الألفاظ الأخرى . أما فيما يتعلق بأصل المعنى كما ورد في معاجم اللغة فإن الفعل تَفِهَ الشيءُ يعني: قَلَّ قَدْرُهُ، وَخَفَّ وَزْنُهُ، وَذَهَبَ طَعْمُهُ أو لَمْ يَكُنْ لَهُ طَعْمٌ، ومنه قولهم “:تَفِهَ الطعامُ” أي صار بلا طعم ولا نكهة “رجلٌ تافهٌ” أي حقيرُ القدر، ضعيفُ الرأي، لا يُعتدّ به؛ فقد ورد في لسان العرب:”التَّفاهةُ نُدْرَةُ الخيرِ في الشيءِ، وتَفِهَ تَفاهةً فهو تافِهٌ إذا كان قليلاً لا يُعبأ به و من الوضح ان هذا المعنى يشير إلى بُعدٍ كمّي” مستد إلى جذر كيفيّ وهو الخير. وفي القاموس المحيط تَفِهَ الشيءُ: خَفَّ وَقَلَّ، فهو تافِهٌ، وتَفاهةُ الرأيِ: سَخَفُهُ وضعفُه ، وهذا يعزز ما سبقت الإشارة إليه في لسان العرب ؛ أما الدلالة الاصطلاحية الحديثة ؛فقد تحوّل فيها معنى التفاهة في العصر الحديث من قِلّة القيمة المادية أو المعنوية إلى دلالةٍ أوسع تشمل السطحية الفكرية، والابتذال الثقافي، وانعدام المعايير الجادّة في الحكم على الأشياء؛ فيقال “زمن التفاهة” أي زمن غياب المعنى وارتفاع من لا قيمة فكرية أو أخلاقيّة له ؛الخطاب التافه أي الخالي من العمق أو الرؤية أو الجدوى ؛ فالتفاهة في أصلها تعني الخِفّة والضَّعف وقِلّة القيمة، وفي الاستعمال الثقافي المعاصر أصبحت تشير إلى انحطاط المعنى، وغياب العمق، وهيمنة السطحي والشكلي على الجوهري والمضموني. أما التفاهة من المنظور الفلسفي فيمكن النظر إلى التفاهة على أنّها نقيض العمق والمعنى ؛ فهي تعبّر عن حالة انفصال الوعي عن القيم العليا والمعايير الجماليّة والمعرفيّة، بحيث يصبح الإنسان أسيرًا للشكل دون المضمون، وللأداة دون الغاية، فقد تحدث الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر عن هذه الحالة في سياق “الوجود السطحي”، إذ يرى أن الإنسان الحديث يعيش في “سقوطٍ في اليومي” أي في دائرة المألوف والآلي، فيفقد الوجودُ معناه الحقيقي. وفي السياق ذاته، يرى جان بودريار أن التفاهة هي ثمرة “مجتمع الاستعراض”، حيث تُستبدل الحقيقة بالتمثيل، والمعرفة بالصورة، فيغدو الإنسان مستهلكًا للرموز أكثر من كونه باحثًا عن الحقيقة. وقد تحدث عدد من المفكرين العرب عن الظاهرة، ومنهم عبد الوهاب المسيري الذي رأى أن التفاهة ناتجة عن “العلمانية الشاملة” التي تفصل الإنسان عن القيمة، وتحوّله إلى كائن وظيفي لا غاية له إلا الأداء المادي ، ومحمد عابد الجابري أشار في نقد العقل العربي إلى أن انعدام النقد والجرأة الفكرية يُنتج “عقلًا مألوفًا” لا مبدعًا، وهو ما يمكن اعتباره شكلًا من أشكال التفاهة المعرفيّة، وعلي حرب رأى أن التفاهة الفكرية تظهر عندما يتحوّل الخطاب الثقافي إلى “تكرارٍ مُمِلٍّ لمقولات قديمة لا تُنتج وعيًا جديدًا”. ومن مظاهر التفاهة في الفكر: انتشار الآراء السّطحية وتقديس الشعارات بدل الأفكار العميقة وفي الإعلام: تقديم “المشهور” بدلا من “المؤثر” وفي التعليم: تحوّل المعرفة إلى درجات وشهادات لا إلى وعي وقيم. أما الدكتور الغذامي فيرى أن التفاهة ليست مفهوما معرفيّاً بل هو حكم إنشائي مُتسرّع ، وهي تخلط بين ظاهرة موضوعيّة وشحنة ازدراء أخلاقيّة ، وأن الرداءة بديل منهجي عن التفاهة، وأن التفاهة حكم عاطفي لا يصلح أساساً للتقويم ، وينبّه إلى عادة شائعة تتمثّل في ربط الجماهيري بالهبوط ، وأن ارتباط مفهوم الثقافة بالمفاهيم النخبويّة (ثنائية الخاصة و العامة) أثر تاريخي ينبغي تفكيكه، ويرى في النخبويّة عدوى من يُصَب بها يميل لاحتقار الجمهور و مطالبتهم ب(القدوم إليه) ويشير إلى ما أسماه مُمارسات منظّمة تستهدف غسل العقول أو التلاعب الصحي التجاري عبر المنصات ، هذه الأخيرة ليست موضوعاً جماليّاً؛ بل شأن قانوني و أخلاقي يجب الإبلاغ عنه و مكافحته ، ويرى أن الكمال الصقيل قد يقتل ومضة الإبداع، وأنه يُحكَم على الرجل من جيّده و إن قلّ كما يقول ابن قتيبة ، ويشير إلى افتقاد الذكاء الاصطناعي إلى الحس الخلّاق. ولعل من المفيد أن نحتكم في ماقيل ويقال عن التفاهة إلى المعنى اللغوي في الأصل ؛ وهو يشير إلى نسبية قارّة ، وليس إلى اصطلاح مُسيّج بأبعاد يمكن القياس عليها، وأنّ الرداءة التي يقترح الدكتور الغذامي استبدال التفاهة بها - وإن بدت واضحة المعالم بمخالفتها للمعايير المصطلح عليها - لا تلغي نسبيّتها ولا تبدو مُكافئاً دلاليّا لها ؛ فالتفاهة تفترض درجة من قيمة المحتوى ؛ ولكنه مُتدَنٍ للغاية ؛ أما الرداءة فهي نفي للصلاحية، وكلاهما قابل للتعليل وإن بدا أن التفاهة تُغلّب المنظور الذاتي على الموضوعي ، والسياق حَكم في هذا الشأن ومناقشة الموضوع برُمّته جاء في سياق مخصوص ؛ و لعلنا نتفق مع الدكتور الغامي في أن التفاهة ليست مفهوماً معرفيّاً ؛ بل مسألة تتقاطع فيها المعرفة مع الذوق ؛ اما البعد الأخلاقي الذي أشار إله الدكتور الغذامي فهو منوط بالسياق ، ولعل الحديث عن الجمهور وذائقته له علاقة بشبكة من الاعتبارات نفسيّة وثقافيّة واجتماعيّة ، شأنه في ذلك شأن الممارسات والأهواء الرياضيّة وأنماط التسلية المختلفة ، وثنائية العامة و الخاصة – وإن سلمنا بانحسارها – فهي لا تلغي التراتبيّة الطبيعيّة في المستوى ؛ أما فيما يتعلق بالرأي الآخر الذي يتحدث عن التحليل و التأسيس وصورة الفكرة في الرأي العام و الخلل في التعبير و العلة في التصوير ونقد الألفاظ بدلا من نقد المعاني وما إلى ذلك من تعقيب على ماجاء في حديث الدكتور الغذامي فأعتقد أن فيه قدراً من المواقف المُسبقة ، فالتحليل سبيل إلى التأسيس ؛ فهو ينطوي على استخلاص للأسس التي ينهض عليها البناء ،وفي موضوع مثل التفاهة يحتوي على صورة الفكرة في الرأي العام يمضي صاحبها في تفكيكها وإعادة بنائها ؛ أما الخلل في التعبير فهو حكم عام لايسنده دليل ، و الحديث عن نقد الألفاظ بدلاً من نقد المعاني مغالطة واضحة تعيدنا إلى إشكالية اللفظ و المعنى ، فنقد الأفاظ لا ينفصل عن نقد المعنى . وهي نقيض البحث العلمي والفكر الحرّ، لأنها تقوم على الاستسلام للسطح، والرضا بالجاهز، وتجميد حركة العقل. ولقد بيّن عدد من المفكرين المعاصرين أن التفاهة لم تُعدّ حالة فردية أو طارئًا ثقافيًا عابرًا، بل صارت آلية إنتاج اجتماعي وسياسي عبر مؤسسات وسلطات وميكانيزمات و اختيار اجتماعي تفضّل الوسطيّة الهزيلة على الكفاءة والعمق ،ووُصف هذا التحول وعرّف بالمكانة الجديدة للتفاهة في الحياة العامة، باعتبارها نظامًا يكرّس المتوسطَ والسطحيَ على حساب التميّز والاختصاص. والتفاهة تمثل تحديًا معاصرًا ليس فقط على صعيد القيم الثقافية، بل على صعيد بنية المعرفة ذاتها، إنّ بناء عقلٍ نقديّ قادرٍ على مقاومة التفاهة يتطلّب إصلاحًا ثقافيًا ومؤسسيًا متزامنًا وتغييراً في سياسات التقييم، وحماية الاستقلالية، وتعليم النقد منذ المراحل الأولى ؛ بهذا المعنى، يصبح العقل النقدي ليس ترفًاً فلسفيًا ً؛ بل أداةَ بقاءِ معرفيةٍ أمام منظومةٍ تُفضّل السطح على العمق. ومهما يكن من أمر فإن إثارة هذا الموضوع أمر بالغ الأهمية في مرحلة حاسمة من مراحل ثقافتنا المعاصرة التي اكتظت هوامشها بالكثير مما أُدرج في باب الثقافة ، وأصبحت المفاهيم المتعلقة بها ملتبسة ؛ وهي ذات علاقة وطيدة بتطور الحياة وتشابك معطياتها المختلفة في عصر العولمة وما شابها من انقلابات على المفاهيم السائدة ؛ وما خالطها من روافد متعدّدة تدفقت في جداول متسارعة بعد أن زالت الحدود بين الأقطار ، وتعاظمت سُبل التواصل بينها عبر ما تحقّق من إنجازات أدت إلى تقلص الفجوات الرقمية وزالت أسياب الاحتكار للعوالم المعرفيّة ، وتقلّصت المطلقات و المجرّدات لصالح النسبيّات وتحولت المفاهيم تبعاً لذلك ؛ وزالت الحدود و السدود بين القيم و الدلالات و المعاني.