الإعلام الإنمائي.. رافعة التنمية.

في عام 2015، تبنت دول العالم “أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة “SDGs والتي تتضمن (17) هدفًا شاملًا لحماية الكوكب، منها: القضاء على الفقر، وضمان الرخاء للجميع، والاهتمام بالبيئة، وترشيد استهلاك المياه، وتطوير نماذج متقدمة للطاقة المتجددة، وإعادة تدوير النفايات، واتباع أنماط حياة صحية سليمة، وبناء برامج تعليمية مثالية. وقد أقرت “الأمم المتحدة” بالدور المحوري الذي يلعبه “الإعلام” في تحقيق هذه الأهداف العامة، وأطلقت مبادرة “ميثاق أهداف التنمية المستدامة الإعلامي SDG Media Compact” لتشجيع وسائل الإعلام حول العالم على زيادة تغطيتها لهذه الأهداف السبعة عشر، وذلك من خلال نشر المعلومات، وتعريف الجمهور بها وبأهميتها، وشرح كيفية تأثيرها على حياتهم اليومية، وإطلاق حملات إعلامية تهدف إلى تشجيع السلوكيات المستدامة. يعود تاريخ الإعلام السعودي الحديث إلى عام 1924م مع صدور صحيفة “أم القرى”، التي رافقت تأسيس الدولة السعودية الحديثة. ومنذ ذلك الحين، شهد القطاع الإعلامي تطورًا تدريجيًا، من الصحافة المطبوعة إلى الإذاعة في الخمسينيات، ثم التلفزيون في الستينيات، وصولًا إلى الثورة الرقمية في العقدين الأخيرين. هذا التراكم التاريخي وَفَّرَ قاعدةً صلبة للقفزات النوعية التي تشهدها “المملكة العربية السعودية” اليوم في مجال “الإعلام الإنمائي” حيث تقدم “المملكة” نموذجًا جديرًا بالدراسة لكيفية عزم “الدولة” أيدها الله، على تسخير إمكاناتها الإعلامية لتحقيق رؤية وطنية طموحة. فمع إطلاق “رؤية السعودية 2030” تحول “الإعلام” من مجرد قطاع خدمي إلى شريك استراتيجي في عملية التحول الوطني. حيث تعتبر هذه “الرؤية” الطموحة هي المحرك الأساسي لتوجهات “الإعلام الإنمائي” في “المملكة” وقد تم إطلاق العديد من المبادرات لترجمة هذه “الرؤية” إلى واقع ملموس. حيث تتولى “وزارة الإعلام” و”الهيئة العامة لتنظيم الإعلام” مسؤولية تطوير وتنظيم القطاع الإعلامي بما ينسجم مع أهداف “الرؤية” المباركة. كما أصبح “المنتدى السعودي للإعلام” منصة رئيسية تجمع الخبراء والإعلاميين من داخل “المملكة” وخارجها لمناقشة مستقبل الإعلام وتبادل الخبرات، مما يسهم في رفع أداء الماكينة الإعلامية المحلية. إضافة إلى إطلاق عدة مبادرات مثل “كنوز” التي تهدف إلى توثيق الثراء الثقافي والحضاري “للمملكة” وتقديمه للعالم بصورة حضارية ومبتكرة. وقد حققت “المملكة” قفزات هائلة في هذا المجال، حيث حصلت على المركز الأول عالميًا في مؤشر تنمية تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (IDI) لعام 2025، الصادر عن الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU). وهذه النتيجة أتاحت للإعلام السعودي أن يتحول من إعلام تقليدي إلى قوة رقمية ناعمة، ومؤثرة إقليميًا وعالميًا. وبعد كل هذه التحولات البارزة انتقل الإعلام الحكومي من المرحلة التقليدية إلى نموذج أكثر تنوعًا، ليشمل القطاع الخاص والمبادرات المستقلة. هذا التنوع يعكس فهمًا متطورًا بأن “الإعلام الإنمائي” الفَعَّال يحتاج إلى أصوات متعددة ومنصات متنوعة لضمان وصول الرسائل إلى مختلف شرائح المجتمع. وهنا يبرز دور الإعلاميين المستقلين “كتاب الرأي” و “المؤثرين” والتكامل بينهما لأجل صناعة الوعي التنموي. فـ “كاتب الرأي” يمثل النموذج التقليدي للمثقف العضوي، الذي يمتلك عمقًا معرفيًا، ومهارات تحليلية تمكنه من فهم القضايا المعقدة، وتقديم رؤى نقدية. فـهو ليس راصدًا للظواهر الاجتماعية فحسب، بل متنبئًا باتجاه الرياح الفكرية. وليس مرددًا لما يدور من أحاديث في المجالس، بل هو قارئ لفنجان الحدث، ومُعَبِّر لأحلام المجتمع. يكتب ليضيف مفاهيم جديدة، لا ليستهلك مزيدًا من الأوراق والأحبار، و”كاتب الرأي” الواعي يدرك أن الكلمة أمانة، وأن كتابة الرأي ليس ترفًا فكريًا، بل هو مهنة أخلاقية ومسؤولية وطنية. لذا يتحتم على “الكاتب” أن يحرص كل الحرص على الدقة قبل الشهرة، وعلى الإنصاف قبل الانحياز. ومع ذلك، فإن محدودية انتشار “كاتب الرأي” قد تحصر تأثيره في النخب المثقفة دون الوصول إلى الجماهير الواسعة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، يبرز دور “المؤثر” وهو ذاك الابن المدلّل والجريء للعصر الرقمي. يعيش بين الناس، ويتحدث بلغتهم، ويمتلك القرب منهم والانتشار السريع بينهم. قد لا يكون لديه نَفَسٌ طويل لصياغة محتوىً عميق، بقدر ما يمتلك من جرأة صارخة لاتخاذ الموقف، ولياقة عالية لامتطاء الشعبوية بهدف الوصول السريع إلى الملايين من المتابعين. وإن التكامل بين الطرفين “كاتب الرأي” و “المؤثر” يضمن تحقيق معادلة صعبة: الانتشار الواسع مع الحفاظ على العمق والمصداقية. لكل هذا وذاك فإنه من الممكن أن يكون “الإعلام الإنمائي” بكل مستويات رافعة قوية للتنمية، ولكنه بكل تأكيد لن يكون “مصباح علاء الدين” لتشكيل الصور كما نريد. ففعاليته تعتمد على كيفية استخدامه، والبيئة التي يعمل فيها. وإن الجمع بين الرؤية الطموحة، والاستثمار في البنية التحتية، وإطلاق المبادرات النوعية يمكن أن يحقق نتائج حاسمة. إن “اليوم العالمي للإعلام الإنمائي” الذي يحتفل به العالم في 24 أكتوبر من كل عام، يذكرنا بأن “الإعلام” ليس مجرد صناعة جامدة، أو قطاع اقتصادي فحسب، بل هو مسؤولية إنسانية وأخلاقية شاملة. فالإعلام الذي يخدم التنمية هو ذاك الذي يعطي صوتًا للمهمشين، ويسلط الضوء على الزوايا المظلمة، ويبني جسور الفهم بين الثقافات والمجتمعات. في نهاية المطاف، ليس السؤال (هل خُلقنا للإعلام أم خُلق الإعلام لنا؟) بل كيف يمكننا أن نجعل “الإعلام” أداة إنسانية تخدم تطلعاتنا المشتركة نحو مستقبل أكثر عدلًا وأوسع ازدهارًا، وأطول استدامةً.