قراءة في قصيدة الشاعر إبراهيم الصعابي عن (غزة) ..
تراتب الثنائيات في حراك لغوي وازدواج إيقاعي ظاهر وخفيّ.

في غمرة اللحظة التاريخية التي مرت بها غزة التي تتعرض لأقصى أنواع الإبادة الجماعية وما رافقها من مخاطر التهجير ، وما نهضت به المملكة العربية السعودية التي ألقت بثقلها في قيادة الحراك الهائل الذي أسفر عن حشد طاقة دوليّة ضخمة قادت إلى إيقاف المجازر البشعة التي مارسها العدو قتلاً وتدميراً في غزة عبر مبادرة الرئيس الأمريكي ترمب ، حيث تم وقف إطلاق النار جاءت قصيدة الشاعر إبراهيم الصعابي معبرةً عن ملحمة الصمود والصراع الذي امتد على مدى سنتين هلك فيها الزرع والضرع معبراً عن التعاطف مع غزة، فرأيت أن أعرض لها في هذه القراءة المختصرة. فمنذ العنوان العتبة الأولى للولوج إلى رحاب الرؤيا تتبدّى ثنائيّة المشهد بأبعاده الوجدانية وفضائه المكاني ، و هما المحوران اللذان تدور حولهما القصيدة : غزة بما تمثله من رموز وطنيّة وإنسانيّة وحضاريّة وتاريخيّة وعاطفيّة وعقديّة ، والقلوب التي عرّفها الشاعر (بأل) الجامعة التي تستوعب ما يمثّله من المنتمين إلى هذه المنظومة التي توحّدها و تميّزها. هذه الأبيات تمثّل نصًّا شعريًّا متوهّجا بإيقاعه الظاهر والخفي، فهي من بحر الطويل وتجمع بين الحسّ الوطني والديني والوجداني في آنٍ واحد، إذ يصوّر الشاعر من خلالها مأساة غزّة وما يعتري الأمة من وجوم وصمت أمام هذا الجرح النازف. ولعل السمة البارزة دلاليّاً في لغة الشاعر هذه الثنائيات التي تنبثق من العنوان الذي انطوي على ازدواجية تعبر عن المحوَرين الرئيسين (غزة والقلوب التي تهفو إليها و تتعلق بها) فثمة سلسلة من هذه الثنائيات التي تجمع بين متلازمات : اللفظ و المعنى (اللغة و الشقاء) إذا تتحول المفردة اللغوية إلى تجسيد للضحية ، و معناها إلى توصيف لها (اللغة و الشقاء) ثم الثنائية الضدية (الصباح و المساء) و(الطهارة و الدنس) والتماثل بين (الدم و الدموع) و (النجوم والشمس) و(النور و الضياء) و(الخليل و المؤنس) واجتماع المتباعدين (هنا غزة) وهكذا في أغلب أبيات القصيدة، و مع هذا التباين و التماثل و التشابه و التضاد تتصاعد المشاعر جيّاشة وتتنامى الانفعالات في تيّار جامح ومفارقات بين الأحوال النفسيّة و الصدمة المذهلة ؛ فـ”اللغة” في مطلع القصيدة تُشخَّص وتُعطى صفات إنسانية؛ إذ يقول: هنا لغةٌ تشقى إذا ذُكر الأسى فَلا يُعْرَفُ الصُّبْحُ المطلُّ ولا المسَا أي أنه حتى اللغة - وهي التي تعبر عن لأحداث الصادمة - تنخرط فيها وتتحول إلى مادة لها فتفنى فيها ، و تتحد معها بلا حدود و لا سدود من فرط شدتها لأنها فقدت القدرة على أن تكون مجرد علامات دالة فانخرطت في سياقها وتوحّدت معها ؛ ليس هذا فحسب ؛ بل إن خيال الشاعر ليتمرد على المألوف في التعبير المكافيء عبر التعالي عن التعبير والانخراط في التعريف و التوصيف ، ويتعالى على المستوى الرمزي ليصبح هو الرمزوالمرموز و الدال و المدلول فغزة (ترثي عفافاً و نرجسا) فالعفاف تعبير مباشر عن الطهر و البراءة يعطف الشاعر عليها النرجس رمز الجمال فتمّحي الحدود بين الرمزو دلالته . وفي صورة تعبر عن هذا المنحى في التعبير قوله: ونحن نرى المأساة تختال بيننا فلا خيلُنا غارتْ ولا عزمُنا رسا تصوير لما بلغته الكارثة من فداحة وما انتاب الأمة من صدمة مزلزلة أنها أصبحت كائناً حيّاً يجتاحنا ويتحرك بيننا ؛ فقد ألِفنا وألفناه واعتاد علينا واعتدنا عليه في صورة تمثيلية حيّة ، فقد عبّر عن الصدمة والذهول بفقدان القدرة على ردة الفعل عبر النفي وتوكيده في صورتين متلازمتين (فلا خيلنا غارت و لا عزمنا رسا) ثمّ يصرخ الشاعر معبراً عن صدمته مطالباً بصدّ العدوان ومواجهة العاصفة عبر أسلوب الاستفهام الذي يتحوّل إلى صرخة تطلب النجدة وتستثير الهمة : هنا صرخةٌ للحقّ، من يسمع الندا؟ فيسحق من بالزيف عاث مدنسًا ولا يجد غير الذات العليا من ينجده؛ فغزة ليس لها إلا الله يمدّ يده حامياً و مدافعاً : هنا غزة الأحرار شاخ بها الهوى فمدت يدًا لله يحمي المقدّسا و ربما كان هناك اعتراض على مضمون هذا البيت الذي قد يفهم منه أن ما حلّ بها نتيجة ما ساد فيها من ترف و ما تنازعها من أهواء ؛والحقيقة أن غزة كانت محاصرة مُضيّق عليها، حتى الكهرباء كانت محرومة منها إلا في بضع ساعات قليلة ؛ وأن لله في خلقه شؤون، فمعروف أن غزة فيها اكبر نسبة من حَفَظة القرآن الكريم وأن مساجدها مكتظّة بالمصلين ؛ و لا أعتقد أن الشاعر قصد إلى اتهامها ؛ وإنما أراد بشيخوخة الهوى ندرته وذبوله ، وأن هذا البيت ينطوي على المديح و ليس على الذم كما قد يؤوّله البعض، يتسامى الشاعر بالمعنى؛ فغزّة التي “شاخ فيها الهوى” بمعنى أن المادة والترف والهوى لم يكن رائجا ؛ فالشيخوخة تدل على الضعف و نذر النهاية، وبقي الإيمان والتضرّع إلى الله هو السلاح الباقي الذي يمحو أي أثر للملهيات و المسيئات . ويُختتم النص بصورة رمزية قوية: وأيّ سلاحٍ مثل دعوةِ خاشعٍ مُنيبٍ سينسى ما أساء وأيأسا الحقول الدلالية للمفردات في هذا النص تتقاطع مع الحالة النفسية و الوجدانية و التعاطف مع الوضع الإنساني المفجع ؛ فمن دائرة الحزن (الأسى و المدامع ) إلى الحقل الروحي والخشوع و التبتل في محراب الدعاء (المقدس و المدنس و الخشوع و المنيب) والانزياح البلاغي ممثلاً في ألوان من المجاز سمة مميزة في هذه القصيدة ، وخصوصاً الصور التشخيصية التي تتحول فيها المجردات المعنويّة إلى كائنات تتحرك وتحس ؛ فهو يشخّص اللغة فتحسّ بالشقاء لهول ما يتسم به فيخلع عليها الشاعر السمة البشرية ، والمأساة تصول و تجول ، والسمة الكنائية التي تختزن المعنى في سياقها التعبيري في قوله ( فلا خيلنا غارت) وهو تعبير يراد به لازم معناه كما هو في تعريف الكناية تعريفاً بلاغيّاً ، وميزة الكناية هنا التلطّف في التعبير والغموض النسبي الذي يُخفي لوماً ضمنيّاً في مثل هذه المواقف الحرجة ، والترميز الموحي الذي تتقاطع فيه الكناية والرمز حيث رثاء العفاف و النرجس تعبير مزدوج يعزّز شعريّة النص ، فضلاً عن إيقاعٍ موسيقيٍّ مزدوج يرافق فيه الوزن المتمثّل في (بحر الطويل) الذي يظلُّ تامّاً فلا يأتي مجزوءاً ولا مشطوراً و لا منهوكاً ، ويستخدم في الأغراض المثيرة للعواطف، ويتميّز بالبوح الوجداني حماسةً وفخراً في سياق التعبير سرداً و وصفاً ؛ والإيقاع الرصين ؛ فالبحر الطويل يمتاز ببطءٍ موسيقيٍّ نسبيٍّ يمنح النصّ وقارًا وهيبة، وهو ما نسمعه في قول الشاعر: هنا دمُنا الزاكي يسيلُ مدامعًا فالإيقاع هنا مُتهادٍ عميق، يعكس حزنًا جليلًا لا انفعالًا صاخبًا و الجِرس المتموّج ، حيث التفعيلة الأولى “فعولن” تتكرّر في مطالع الأبيات، فتُحدث نَغَماً حزينًا، يتّسق مع دلالات الألم: فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن هنا دمُنا الزاكي يسيل مدامعًا صوتيًا: نسمع تموّجًا كأنّه أنين أو نحيب. والقافية بالألف المقصورة مثل: الأسى – المسا – نرجسا – رسا – المقدّسا هذه القافية تمدّ الصوت الأخير، فتمنح الإيقاع امتدادًا موسيقيًا ينسجم مع طول البحر ومع جوّ الحزن المسترسل.وثمة تناسب بين الوزن والمعنى: البحر الطويل كثيرًا ما يُستخدم في القصائد الملحمية والرثائية، لأنه يسمح بتفصيل الصورة والتأمّل العاطفي، وهو ما نجده هنا بوضوح في نبرة الشاعر التأملية الممزوجة بالألم والإيمان ؛ والانسجام الصوت يحقق توازناً بين الثقل الإيقاعي والرقة الشعورية؛ أما الإيقاع الداخلي فيأتي عبر التكرار وتقايل الثنائيات وتناغمها ، والسمات الصوتية الناجمة عن تراسل إيقاع الحروف في نغمة حزينة وغنائية شفيفة أما السمات الأسلوبية ذات الحيويّة الدلاليّة والنغميّة بما تتضمّنه من حيوية االطلب وافتراض خطاب الآخر حيث يستخدم الشاعر أساليب النداء والإنشاء والخطاب الجمعي (“نحن نرى”، “من يسمع”) ليضع المتلقي في بؤرة المعاناة فضلا عما يحدثه تداول الأساليب التقريرية و الطلبية من حيوية درامية بين التوصيف والتنديد. ويمكن استشراف رؤيا لشاعر عبر تسلسل علاماته ومضامينه في استثماره لأسماء الإشارة إلى المكان وتكرارها (هنا) تعبيراً عن القرب الوجداني على الرغم من البعد المكاني والتجليات المجازية عن الحال و المآل عبر صور كونية وتقريرات حِكمية واستشرافات تتردّد بين طلمة الليل وضياء النهار، والتحليق في فضاءات متفائلة بالخلاص والنزعة الروحيّة الإيمانيّة والحكمة البالغة: وَمَنْ يَـغْتَصِبْ حَقًّا بِمَنْطِقِ زَيْفِهِ سَيُسْقَى شَتَاتًا ما أَذَلَّ وَأَتْعَسا وفيما يلي نص القصيدة .. لـ “غزة” تهفو القلوب هُنَا لُغَةٌ تَشْقَى إذا ذُكِرَ الأَسَى فَلا يُعْرَفُ الصُّبْحُ المطلُّ ولا المسَا هُنَا دَمُنَا الزَّاكي يَسِيلُ مَدَامِعًا وَ”غَزَّتُنَا” تَرْثِي عَفَافًا وَنَرْجَسَا وَنَحْنُ نَرَى المأْسَاةَ تَخْتَالُ بَيْنَنَا فَلا خَيْلُنَا غَارَتْ ولا عَزْمُنَا رَسَا هُنَا صَرْخَةٌ للحَقّ مَنْ يَسْمَعُ النّدا فَيَسْحَقُ مَنْ بالزيفِ عَاثَ مُدَنِّسَا هُنَا “غَزَّةُ” الأَحْرَارِ شَاخَ بها الهوَى فَمَدّتْ يَدًا للهِ يَحْمِي المُقَدَّسَا وَأَيُّ سِلاحٍ مِثْلُ دَعْوَةِ خَاشِعٍ مُنِيبٍ سَيَنْسَى ما أَسَاءَ وَأَيأَسا فَهُمْ مَلأُوا الأَقْدَاحَ مَوْتًا مُعَجَّلاً وَهُمْ رَسَمُوا للحَلِّ خَطًّا مُقَوّسَا بَكَيْنا كثيرًا فوقَ ما عَرَفَ البُكا وَمَنْ عاشَ في صَمْتٍ يَموتُ تَوَجّسَا وهلْ يَنفعُ المرءَ الجَسُورَ صُمُودُهُ إِذَا عَاشَ طُولَ الدَّهرِ ظَمْآنَ مُفْلِسَا تـَمُدُّ لَهُ الأيّـامُ عزًّا وَمَنْعَةً فَيَرْقَى إلى الأَعْلَى نُجُومًا وَأَشْـمُسَا وَيَغْرِسُ حَوْلَ الشَّمْسِ حُلْمًا مُؤَجَّلاً فأخصبَ جَدْبٌ والصَّبَاحُ تَنَفَّسَا مَتَى تَصْدُقِ الأنباءُ نَـحْضُنُ أَرْضَنَا؟ فَكَمْ حَصَدَ الأَعْدَاءُ دُورًا وَأَرْؤُسَا فما في حياةِ المرءِ سَعْدٌ وراحَةٌ إذا لَـمْ يجدْ في الدَّارِ خِلًّا وَمُؤْنِسا لـ “غَزَّةَ” نورٌ مَنْ أَزَالَ ضياءَها؟ وَمَنْ كَمَّمَ الأَفْوَاهَ ظُلْمًا وَأَخَرَسَا؟ طرقتُ بها الأبوابَ لا أحدٌ بها فلا الصُّبْحُ جلاّها ولا الليلُ عَسْعَسَا غَدًا سَوْفَ يَـأْتِـينَا البَشِيرُ مُـحَمَّلًا مَشَاعَلَ فَـتْحٍ بالبِشَارَةِ مُؤْنِسَا غَدًا تُشْرِقُ الأَضْوَاءُ والجورُ يختفي وَيـُخْفِي لسانَ الشَّرِّ يُصْبِحُ أَخْرَسَا غَدًا تـُـزْهِرُ الأَحْلامُ حُبًّا وبَـهْجَةً وَنَنْهَلُ مِنْ صَفْوِ السَّعَادَةِ أَكْؤُسَا سَيَنْفَجِرُ البركانُ في كلِّ بُقْعَةٍ يُطَهِّرُها .. يُردي غزاةً وحُرَّسَا وَيَصْحُو نهارُ العَوْدِ في قَلْبِ عَائِدٍ لِيَفْتَحَ آفَاقًا وَيُسْعِدُ أَنْفُسَا فَفِي الرَّمْلِ نِيرَانٌ لأَقْدَامٍ مُجْرِمٍ مُسِيءٍ فَمَا يَسْطِيعُ للأَرْضِ مَلْمَسَا فَهَلْ مِنْ “صَفَاءٍ” للخُلُودِ وَمَوْعِدٍ نُـصَافِحُ أَحْبَابًا .. نُـعَطِّرُ مَلْبَسَا سَيَكْبُرُ أَطْفَالُ الحِجَارَةِ في غَدٍ وَيُحْيُونَ ثَأْرًا في الجَوانِحِ مُغْرَسَا سَنُشْرِقُ فَجْرًا نَـمْلَأُ الأَرْضَ عِزَّةً وَنَـحْمِلُ في لَيْلِ الـمَهَابَةِ أَفْـؤُسَا فَلَنْ نُـطْفِئَ الثَّارَاتِ حَتَّى نُـذِلَّـهُمْ وَحَتَّى نَـرَى ظُلْمَ العَدُوِّ مُنَكَّسَا فَيَصْدَحُ صَوْتٌ للأَذَانِ مُرَدِّدًا يُـنَاجي إِلَـهًا نَـاصِرَ الحقِّ مُؤْنِسَا فَمَْن يُسْكِنِ الأَهْلينَ في غَيْرِ بَـيْـتِـهِ يُلاقُوا بها أَمْنًا مُخِيفًا وَمَحْبَسَا وَمَنْ يَـغْتَصِبْ حَقًّا بِمَنْطِقِ زَيْفِهِ سَيُسْقَى شَتَاتًا ما أَذَلَّ وَأَتْعَسَا