الانتماء للوطن.. مرآة النفس و مستقرّ الوجود.

الانتماء للوطن ليس مجرد شعور لحظي يُثار عند سماع النشيد الوطني أو مشاهدة العلم مرفرفاً، بل هو حالة وجودية عميقة تنسج خيوطها في قلب الإنسان و عقله، فتغدو جزءاً من هويته النفسية و تكوينه الداخلي. هو ليس التزاماً اجتماعياً أو اصطلاحاً قانونياً بقدر ما هو طمأنينة داخلية، و ركيزة روحية تُشكّل أساس الشعور بالاستقرار، و تضبط إيقاع النفس حين تتقاذفها صراعات الحياة. الانتماء كحاجة نفسية: من منظور علم النفس، يندرج الانتماء ضمن الاحتياجات الأساسية التي تنادي بها “هرمية ماسلو”، إلى جانب الأمان، و الحب، و تحقيق الذات، لكن الانتماء للوطن يتجاوز البعد الشخصي ليصير تجسيداً لهوية جمعية. الإنسان الذي يشعر بأنه “ينتمي” لا يعيش في حالة تشظٍ أو ضياع .. بل إنه يعلم من هو، و أين يقف، و ما الذي يربطه بمن حوله. هو لا يحتاج أن يُثبت نفسه في كل لحظة، لأن الأرض التي ينتمي لها تحتضنه كما تحتضن الأم طفلها ، ففي لحظة القلق، يصبح الوطن حضناً، وفي لحظة الفخر، يصير مَنبعاً، و في لحظة الغربة، يتحوّل إلى قبلةٍ روحيةٍ تُقاوم وحشة المدى. الطمأنينة كنتاج روحي للانتماء: الطمأنينة لا تنبع فقط من الاستقرار المادي، بل من يقين داخلي بأن لك جذوراً تمتد في التاريخ، و امتداداً في الجغرافيا، و سنداً في المجتمع ، فحين يشعر الإنسان بأنه لا يعيش على هامش المكان .. بل في صلبه، يغدو أكثر قدرة على تخيّل مستقبله، و تحمّل واقعه، و الاتساق مع ذاته. ولهذا، فالانتماء للوطن يخفف من مشاعر الاغتراب، و يحد من اضطرابات الهوية، و يقوّي جهاز المناعة النفسي ضد القلق الوجودي. فلسفة الانتماء: بين الفرد و الكلّ: الانتماء للوطن هو في جوهره ضرب من التصالح مع الكلّ ، فالفرد لا ينتمي للوطن بوصفه “مساحة جغرافية”، بل بوصفه رمزية نفسية، و شيفرة وجدانية، و سياقاً للذاكرة و المستقبل. كلّ شارع سار فيه، كلّ لهجة سمعها، كلّ مناسبة وطنية عاشها، تُكوِّن جزءاً لا يتجزأ من ذاته النفسية الأعمق. من هنا، فإن فقدان هذا الانتماء، أو التشكيك فيه، يُعدّ – نفسياً – نوعاً من الاقتلاع الداخلي، الذي يُخلخل ركائز الاستقرار، و يؤدي غالباً إلى الفراغ، و العدمية، بل و حتى العدوانية. الوطن كجواب لسؤال “من أنا؟”: في خضم الأسئلة الكبرى التي يطرحها الإنسان: “من أنا؟”، “إلى أين أنتمي؟”، “ما الذي يُشكّلني؟”، يأتي الوطن كإجابة ناعمة و قوية في آنٍ واحد. إنه ليس فقط المكان الذي وُلدت فيه، بل الذي وُلِدت له ، و حين يكون هذا الانتماء صادقاً، لا تَعود العلاقة بين الإنسان و وطنه علاقة انتفاع أو امتثال، بل علاقة حب و تماهٍ ، و من هنا تنبع الطمأنينة من كونك في المكان الذي يراك، و يمنحك المعنى. الانتماء للوطن ليس ترفاً شعورياً، بل ضرورة نفسية و روحية. إنه الجدار الذي تستند إليه النفس في لحظة اهتزاز، و النبض الذي يحفظ إيقاع الروح في زمن التبعثر. من ينتمي حقاً، يعيش في سلام داخلي حتى في أحلك الظروف، لأن لديه ما يستحق الدفاع عنه، و ما يشعر من أجله بالوجود. فالانتماء للوطن ليس فقط ما يمنحنا الاستقرار، بل هو الاستقرار ذاته حين يتجلى في هيئة شعور.