فيلم اقتل الضوء.. « The Things You Kill» عن الأشياء التي نقتلها.

(اقتل الضوء) هكذا يبدأ علي خاتمي فيلمه (الأشياء التي نقتلها) عبارة صادمة ومستفزة وكأنه يحضرك مسبقاً لأشياء ستقتل بالرغم من استحالة قتلها عملياً إلا أنها تقتل بشكل آخر، أشياء تقتل فينا أو نقتلها.. كالضوء مثلاً.. اقتل الضوء ولا تطفئه؛ كان هذا الحلم الذي رأته زوجة “علي” وكان الحلم افتتاحية الفيلم وختامه. فيلم آسر يجعلك تقف أمام الواقع دون اختلاق وفي كل مشهد تشعر وكأن يداً تمتد لتزيح اللثام عن روحك أنت أيضاً، لتكتشف ما كنت تحاذر اكتشافه ورؤيته في أعماقك، وكأن الفيلم يطرح قضية قديمة قدم الإنسان نفسه منذ النبي إبراهيم ووالده وقبل ذلك، إنها قصة الأبناء والآباء، سلسلة لا تنتهي من القسوة والقهر المتوارث تبدأ من الأجداد إلى الأحفاد وتستمر إلى الأبد، يرى الآباء أبنائهم كعقوبة من السماء ويرى الأبناء ذلك أيضاً، ينسى الآباء أنهم كانوا أبناءً يوماً ما وينسى الأبناء أنهم سيكونون آباءً، وما بين طغيان الأب وعصيان الابن تتسع الهوة حتى تبتلعهما معاً! الفيلم يحكي قصة علي الأستاذ الجامعي(علي) الذي يدرس الترجمة، والذي ترك تركيا في وقت سابق ليعيش في الولايات المتحدة، لكنه يعود ليواجه مرض والدته ثم موتها بعد ذلك، ويبدأ بالشك في تورط والده في قتلها، لتتمكن منه فكرة الانتقام فيتورّط مع بستاني غامض يُدعى رضا، ينضمّ إليه لمحاولة الانتقام، لكن الأحداث تنحرف نحو مفارقات نفسية وهوياتية متداخلة! The Things You Kill” “هو فيلم جريء ومتشابك يخترق الأعماق النفسية داخل العائلات الممزقة، ويجد في العنف الموروث وتحطيم الذوات مادة درامية وفنية ثرية، القصة ليست عن “من قتل مَن”؟ بل عما نقتله في داخلنا عن العجز الذي نُخفيه وعن تلك الصراعات التي تتحرك في الظل، ويُطلّ منها شخص آخر لا نعرفه. يبدو الفيلم وكأنه حصان طروادة أي أنه يقدم نفسه كقصة عادية عن الموت والأسرار العائلية، لكنّه يتحوّل تدريجيًا إلى استكشاف نفسي عميق، هناك لحظات من التداخل الزمني، تبدو القصة في البداية يومية وعابرة حتى تموت والدة علي، وكأن روحه تتشظى بموت والدته وتموت فيه الكثير من الأشياء المضيئة، فينكسر ويلقي باللوم على والده ويبدأ بالربط بين الحقائق ليتوصل لحقيقة تمكنه من الانتقام الذي انتظره طويلاً، انتقامه من والده ليثأر بزعمه لوالدته، لكنه ما كان يثأر حينها إلا لنفسه ولطفولته وعذاباته، ويجسد لنا المخرج هذا التشظي بشكل مدهش فيسقط الهوية الأخرى على هيئة شخص آخر وهو البستاني البسيط الذي جلبه علي ليعمل في البستان قبل وفاة والدته، وستسمع طوال الفيلم أن عليّاً كان يقضي أوقاتاً طويلة في البستان، وهذا دليل آخر أن البستاني ما كان سوى انعكاس لصورة علي الأخرى في داخله، الرغبات المكدسة في القتل والانتقام، طغيان الأنا وإهمال الروح والأخلاق، ليبدأ الصراع الداخلي وكأنه صراع ظاهر وحقيقي لكنه لم يكن سوى معركة تطهير يخوضها علي كما نخوضها جميعاً كل يوم، كان لابد في آخر الأمر أن تتحرر إحدى الشخصيتين، أن تقتل إحداها لتعيش الأخرى.. وهذا ما حدث بالفعل، ونهاية الفيلم كبدايته تشبه الحلم لكن عليّاً انتصر لحقيقته. استخدم المخرج تصويرًا مدروسًا يُدخل الشخصيات في مساحات واسعة أو ضيقة حسب الحالة النفسية، فيُشعر المشاهد أحيانًا بصغر الإنسان أمام محيطه الداخلي أو الخارجي، كما أن هناك لقطات ضبابية أو تغيّر طفيف في التركيز تُشعر بعدم استقرار الواقع، وأهم الحِيَل الدرامية تبادل الأدوار بين علي ورضا في بعض المشاهد أي أن الشخصين يُريان في كل مرة بزاوية مختلفة، أو تتحوّل العلاقة بينهما بطريقة تجعل الحدود بينهما ضبابية، هذا التشابه الظاهري يعكس الصراع الداخلي لعلي بين رفضه للوالد وبين جذبه نحو العنف. أهم ما ميز الأداء التمثيلي أنه لم يفرط في التلوين أو التمثيل المسرحي، بل اكتفى بالتلميح بتعبيرات وجه دقيقة، أو بلحظة تأمل، ليفتح المساحة للمتفرّج ليكمل الفراغ، والتحوّل بين “علي” والبستاني “رضا” والتشابه بينهما يدعو للتساؤل إلى أي مدى يُمكن للفرد أن يقتل أجزاء من نفسه أو الآخر؟ أو أن يكون الآخر هو انعكاس لتلك الأجزاء المكبوتة؟ والفيلم مليء بالمشاهد التي يمكن التوقف عندها طويلا، كمشهد علي في صف الترجمة وهو يُشير إلى أن الترجمة تتضمن أحيانًا موتًا للمعنى الأصلي أو تغييره، مما يُشبه ما يفعله الفرد مع جذوره أو تاريخه الشخصي كذلك. كان “عليّ” يعيش في صراع بين أن يكون الابن المطيع وبين أن يكون المنتقم، هذا التمزّق بين الذوات يشي بأن الهوية ليست وحدة ثابتة، بل حقل من الصراعات والتفاعلات، الفيلم يُبيّن أن العنف لا يبدأ ويختتم عند جيل واحد؛ إنه يُنقل في الشفرة النفسية والتوقعات الاجتماعية، الأب لم يكن أصل الشر وحده، بل هو محطّة في سلسلة، وعليّ ليس سوى شخص يحاول أن يقتل ما يراه شرًّا وهو الأب لكنه بالضبط يقتُل جزءًا من نفسه، جزءًا من العنف الذي اختزن بداخله، وكأن الفرد يصبح سفيرًا لشجرة العنف التي نبعت منه. الفيلم يعطي إجابة حول الانتقام هل يُنقذ أم يُدنس؟ عليّ تراوده فكرة الانتقام من الأب باعتباره من قتل والدته، لكن مع التقدم في السرد، تتداخل الحقيقة والنوايا والذنب، فتتلاشى الحدود بين المقتول والجاني، فالانتقام لا ينهي العنف، بل يولّده في الداخل وقد يُولّد شعورًا بالذنب والخطيئة، ويتجلى هذا في المشهد الأكثر تأثيرا بالنسبة إليّ في الفيلم، حين ربط علي نفسه في مكان الكلب وكأنه انسلخ من إنسانيته وطغت الحيوانية عليه، مشهد يثير الكثير من المشاعر الإنسانية كالشعور بالذنب والخطيئة، والرغبة في تعذيب الذات وتحقيرها ومعاقبتها، بسبب طغيان الحيوانية على الإنسانية، كل هذا يجعل المشاهدة تجربة فكرية، فالفيلم يترك أثراً يتجاوز نهايته؛ لأنّه يحرض التساؤل حول كيفية تحرير أنفسنا من الأسلاف، وكيف نواجه القلق الذاتي؟ وأي أجزاء من هويتنا قد تكون أكثر ميلاً إلى القتل مما نحب أن نعترف به؟ شخصية علي الأستاذ الجامعي الذي يعيش في أميركا، يترجم، يفكر، يتحدث بلغة منطقية هادئة، هذه الذات ترى نفسها متفوقة على الماضي، تظن أنها تجاوزت الجذور القروية والعنف العائلي والذكورة السلطوية، تعاني من العقم، من الشعور بالعجز، ومن فقدان المعنى والقدرة على السيطرة، أما رضا الوجه الآخر والمكبوت لعلي فهو ظلّ علي والجانب الذي يخرج من لا وعيه ليتحدث لغته المكبوتة، ويمارس العنف الذي لم يجرؤ عليه عقله الواعي، رضا هو تجسيد للعنف الوراثي والذكورة المكبوتة والغرائز التي حاول عليّ دفنها باسم التمدّن، والكاميرا تصوّرهما بزاوية واحدة و كأنهما وجهان لمرآة، وفي بعض المشاهد لا نرى رضا إلا في انعكاس أو ظل أو خارج إطار عليّ، وهنا يصبح الفيلم رحلة مواجهة داخل الذات، إنه ليس عن جريمة قتل بقدر ما هو عمن سيبقى بعد الصراع الداخلي، عليّ المتحضّر أم رضا البدائي؟ وكان لابد من قتل أحدهما في آخر الأمر لكي يتطهّر من الماضي، يجب أن يقتل النسخة التي تشبه الأب بداخله وهي رضا، وبذلك يصبح القتل في النهاية رمزًا للتحرر الداخلي لا جريمة واقعية، لكن بقتله لرضا سيكون مضطراً لقتل جزء من نفسه، تمامًا كما قال نيتشه: «من يحارب الوحوش عليه أن يحذر ألا يتحول إلى وحش» في المشهد الأخير بعد المواجهة بين عليّ ورضا أو بين عليّ وذاته الثانية، يسود صمت كثيف، وتنطفئ الألوان تدريجيًا، بينما يخرج عليّ إلى الخارج غالبًا في ضوء فجر باهت أو غروب رمزي، يبدو أن عليّاً تخلّص من رضا جسديًا، لكنه لا يبدو منتصرًا، فملامحه أقرب إلى شخص خرج من حلم طويل لا يعرف فيه من كان القاتل ومن المقتول. ولهذا فالنهاية لا تمنح راحة بل ترسلك إلى صمت وجودي أشبه بالفراغ بعد عاصفة نفسية، وتذكّر بمفهوم القتل الرمزي للنفس القديمة لكي يولد الفرد من جديد، عليه أن يمر عبر فعل رمزي من التدمير، تدمير صورته السابقة و تدمير الآخر في داخله، لكن هذا الفعل لا يضمن النجاة، لأنه قد يترك الإنسان في منطقة رمادية لا هو نفسه القديمة ولا شخصًا جديدًا بعد، كأنك مضطر لكي تبقى إنسانًا إلى قتل نصفك وتعيش بنصفٍ آخر ينزف إلى الأبد، “The Things You Kill” يتحدث عن الأشياء التي نقتلها في داخلنا كي نعيش، كالبراءة و الذاكرة والغضب، أو حتى القدرة على الحب، وعليّ ما هو إلا هو، صورة للإنسان الحديث، الممزّق بين العقلانية والغرائز، بين التمدن والدم، بين الأب والابن، بين مَن نريد أن نكون ومَن نحن عليه فعلًا، القتل هنا ليس نهاية بل ثمن البقاء، هو لم يقتل أباه، لكنه لم يخرج من لقائه حيًّا تمامًا أيضًا، فكلاهما، الأب والابن، اختفيا في الآخر، وكأن الفيلم يلمّح أن القتل حدث في ذهنه، لكن تأثيره الواقعي عليه كان حقيقيًا تمامًا، انهياره، انفصاله، فراغه بعد الفعل، كل ذلك يدل على أن القتل لم يكن وهمًا عابرًا، بل تجربة وجودية غيّرته جذريًا. الفيلم من تأليف وإخراج: “علي رضا خاتمي” وبإنتاج دولي مشترك بين كندا وتركيا وبولندا وفرنسا، ويشارك في بطولته “إيكين كوتش” بدور علي، “أركان كولشاك” في دور رضا، كما اختير الفيلم ليكون ترشيح كندا لجائزة أفضل فيلم روائي دولي في حفل توزيع جوائز الأوسكار الثامن والتسعين.