
معنى أن تكون فناناً مبدعاً، هو قطعك للمسافة ما بين ذاتك الطبيعية وذاتك “المثلى”؛ التي تختبر فيها ذلك الوهج المدهش بامتزاج الوعي واللاوعي. ففي اللاوعي يكمن مخزونك الثقافي وهو المعبر الحقيقي عن مدى إبداعك ومجال تفوقك. وفي مجال فن التمثيل، وعلى نسق كوجيتو ديكارت «أنا أفكر إذن أنا موجود»، يبتكر الفيلسوف والناقد إدغار موران مصطلح “الكوجيتو السينمائي”، ليصبح في السينما: «أن نمثل ليس معناه أن نعيش، بل معناه أن نكون.. فالأداء يصبح لعبة الروح؛ حيث السينما تريد روحاً خلف الوجه». تلك هي الخطوة الأولى وصفحة البداية التي نعدها ونضعها أمامنا، لنمهد بها مطالعتنا لكتاب يتحدث عن مسيرة الفنان إبراهيم الحساوي، والصادر مؤخراً، ضمن مشروع سلسلة الموسوعة السينمائية الذي تقوم عليه “جمعية السينما”، وهو بعنوان: “إبراهيم الحساوي، من مسرح القرية إلى شاشة العالم” للكاتب جعفر عمران. (*) ففي هذا الكتاب يتاح لنا رؤية “إنوجاد” وطريقة تكامل شخصية إبراهيم الحساوي الفنان والشاعر. قبل سنوات، وفي أحد المهرجانات الفنية؛ وعندما كان الفنان إبراهيم الحساوي ضمن المكرمين فيه، سأله أحد المسؤولين بإعجاب: ما هي وظيفتك ووسيلة كسب معيشتك؟ أجابه إبراهيم بابتسامة: المسمى الرسمي هو “مشغل مضخة” وفي الواقع الوظيفي “كادر” إداري. وعندما كان طفلاً في الصفوف المدرسية الابتدائية، حاول تقليد خط أستاذه على السبورة بإجادة كبيرة، فنصحه ذلك المعلم بعدم محاولة محاكاة عمل الغير، بل اختطاط مسيرتك بما يوافق طبعك واستعدادك النفسي وملكاتك الخاصة. تلك الرؤية والاستشراف المبكر من معلمه، جعله يعي ذاته بحقيقة ميولها. حاول أن يكون هو نفسه سواء تحت مسمى تطلقه عليه الظروف المعيشية “مشغل مضخة” بينما يمارس عملاً مختلفاً، أو أن يختبر عامداً حيوات أخرى من خلال الفن بالمحاكاة والتمثيل. أن يضع حداً للتشظي والفوضى الداخلية التي توجهه إلى نواح عديدة؛ بأن يتحكم بشغفه بعد استبطانه لحقيقة نفسه: منزع يأخذه باتجاه الفكر والأدب، وآخر ناحية الفن المسرحي والموسيقى. فهو كما قال عنه الدكتور محمد البشير: «إنه كائن تشرب بالفن، ولهج به... وهو الفنان الذي لم يترك مشرباً من مشارب الفنون؛ إلا واغترف منه غرفة بيده، فأبدع وتوهج». ذلك ما يحاول جعفر عمران كشفه في كتابه ذاك، حيث جاء هذا الكتاب التعريفي بالفنان الحساوي، ليبرز حياة وصور لا ندركها في الخاص من شخصيته التي تتوارى خلف ستارة المسرح. طفولته في قريته “الحليلة” بالأحساء، والتي يصفها بـ «القرية التي تحرس أبناءها، ولا تود أن يبتعدوا عنها، وتريد منهم أن يعودوا إلى بيوتهم ليلاً مبكرين، وألا يسهروا خارج بيوتهم». ولادته في بيت شعبي متواضع ضمن قريته الريفية حيث «بعض جدرانه مصنوعة من سعف النخيل، أو ما نسميه “الحضار”، ومجلس الرجال داخل البيت هو “العريش”، المصنوع من سعف وجذوع النخلة. وباقي البيت مبني من الطابوق والطين والجص». شغفه المبكر بالموسيقى منذ الطفولة التي يدهشها ضخامة الصوت وجماله من خلال آلة المكبر الصوتي واسطوانات التسجيل، ثم التجريب عليها بممارسات تلبي شغف الطفولة كالإذاعة المدرسية، وفيما بعد وفي مرحلة الشباب بالعمل في محل بيع أسطوانات الغناء وأشرطة الكاسيت. المسرح المدرسي وفي قاعة نادي قريته الرياضي “العدالة”، ثم ممارسته التمثيل ضمن أنشطة جمعية الثقافة والفنون. دخوله أستوديوهات التصوير كممثل في التلفزيون والسينما. فهذا المسار الفني يوازيه مساراً آخر لشخصيته ابتداء بمهارته في إعداد الصحف الحائطية المدرسية إلى إنشاءه ورفيقه جعفر عمران لموقع “التنور الثقافي” على الشبكة العنكبوتية نهاية العشرية الأولى من هذا القرن، وأيضاً تأليفه للشعر. يعقب سرد الفنان إبراهيم الحساوي لذكريات مسيرته الحياتية والفنية - كما دونها جعفر عمران -العديد من الشهادات التي أكملت في إضاءتها جوانب مختلفة من شخصيته سواء الشعرية أو الفنية. فأشرف الممتن ألقى الكثير من الأضواء على مسيرة الفنان: «فحين يُذكر إبراهيم الحساوي، يُذكر معه المسرح بحضوره الحي، والسينما بوهجها، والتلفزيون بتجلياته الدرامية، ويذكر الشعر، الذي ظل يتنقل بين سطوره كما يتنقل بين أدواره. لم يكن مجرد ممثل، بل هو كيان متكامل ينحت الأداء كما يُنحت الشعر، ويخرج من الشخصيات أبعادها الخفية كما يُخرج الشاعر من اللغة مكنوناتها... ومنذ أول ظهور سينمائي له، استطاع الحساوي أن يرسم بصمة لا تشبه غيره، من خال أدوار تأخذ العمق الإنساني مدخلاً للأداء، فشارك في خمسة عشر فيلماً سعوديا قصيراً، فازت جميعها بجوائز محلية وعالمية...». ثم يكمل أشرف الممتن شهادته بجردة بيلوغرافية عن أعماله، والتي كان في مجملها: خمس وأربعون مسرحية، تسعون عملاً تلفزيونياً، خمسة عشر فيلماً سينمائياً. باقي الشهادات جاءت لتنوع على منظور الرؤية وعن جوانب مختلفة من شخصيته؛ كالحديث عن بدايات احتراف الفنان الحساوي للتمثيل عام 1984م والتي تناولها بالتفصيل مؤسس جمعية الثقافة والفنون بالأحساء الفنان المسرحي والموسيقي عبد الرحمن الحمد، وكذلك طاهر العيثان مؤسس نادي العدالة الرياضي. تلاها العديد من الشهادات التي تصف مقدرة الفنان إبراهيم والمستوى الرفيع الذي وصل إليه في عالم التمثيل. ومن ذلك شهادة المخرجة ريم البيات التي تناولت شخصيته الفنية للفنان من منظور الموهبة المتفردة، فـإبراهيم: «ليس مجرد ممثل، بل هو مدرسة في الأداء وتجسيد الشخصيات، قادر على إضفاء حياة حتى على الأدوار الأكثر تعقيداً، بموهوبة لا تدرس بل توهب». وبما يقارب “الكوجيتو السينمائي” للفيلسوف موران، يسقط المخرج البحريني علي العلي هذا المعنى في شهادته على إبراهيم الحساوي، وأنه رأى فيه عن قرب «كيف يتحول الفن إلى حياة، وكيف يصبح الأداء تجربة وجودية تتجاوز حدود الشاشة». وعن الجانب الأخلاقي يقول الفنان يوسف الخميس: «إن إبراهيم لم يكن ممثلاً فحسب، بل كان صديقاً للفنانين والممثلين، يدعمهم ويساعدهم، ويوجههم إلى الوسائل الصحيحة، ويعلمهم خصائص تقمص الشخصية، واحترام العمل الفني». وجاءت الشهادات الأدبية منصفة للفنان والشاعر إبراهيم، حيث قال عنه القاص والسيناريست مفرج المجفل أنه: «سيبقى إبراهيم الحساوي نموذجاً متفرداً بالنسبة لي، لأنه فنان من أجل الفن، ولأنه البطل خارج النص وقبل أن يكون بطلاً داخله». وكذلك وصفه الشاعر جاسم الصحيح بالفرادة «والقيمة الفنية الراسخة في المشهد السعودي»، وعزز رؤيتيهما الشاعر والكاتب الكويتي نشمي مهنا في شهادته بشيء من التفصيل: «يقال وعلى سبيل التشبيه: إن المبدع في فن الشعر (عليه ألا يـظهر أثر الإبرة)، أي ألا يكشف سر الصنعة. وهذا ما أراه في “وجوه” إبراهيم الحساوي على “الشاشات”؛ يملك حساسية عالية في إعطاء الدور حقه، من التلبس والانفعال، والبرودة والمبالغة… والهدوء، والتوتير، والحركة والركود. مسألة مركبة ومعقدة لكن إبراهيم يتقنها في كل مرة، كمن يزن كل تلك الحالات بـ “ميزان الذهب” الدقيق». وهذا ما اتفق معه الناقد والقاص عبد الله السفر في شهادته: «ودائماً لنا نصيب وافر من الليل.. ومن الشعر حصة الحساوي التي نحبها، نحن أصدقاؤه، عندما يرق وتنفتح عليه وعلينا أبواب ذاكرته الدفاقة بأطيب الأشعار الشعبية... والمسرح / التمثيل هو الرعشة الحية التي تنفذ إلينا من جسد إبراهيم وما يبثه من تعابير ومن انفعالات؛ نتجاوب معها حد الاندماج وسقوط الجدار الرابع... فملأ المسرح بجسد مطواع يرسم الزمن في تحولاته منذ الميلاد». وهكذا جاءت بقية الشهادات في الكتاب لإبراز فرادة شخصية الفنان إبراهيم الحساوي.. وما يمكن أن نختم به، هو التركيز على “عصامية” الفنان؛ وقد جاء ذكرها ضمن شهادة الدكتور سامي الجمعان، الأكاديمي والمسرحي السعودي. فقبل سنوات، وفي معرض كتاب الرياض، وجدت أنا - كاتب هذه السطور - إبراهيم منهمكاً بجدية في البحث عن عناوين لكتب أدبية وفلسفية؛ ومنها طلبه جميع مؤلفات الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه صاحب كتاب “حياة الصورة وموتها” الشهير، وصاحب نظرية “الميديولوجيا” وهي النظرية النقدية التي تُعنى بطرق انتقال المعنى الثقافي في المجتمع البشري على المدى البعيد! فهذا الملمح الجاد والعصامي في التحصيل والمعرفة من شخصيته، هو من مكنه الوصول إلى هذه المقدرة والرتبة العالية في التمثيل. مع ملاحظة يذكرها إدغار موران؛ عندما يفرق بين التمثيل على خشبة المسرح والذي يتطلب من الممثل أن يضخم مشاعره وبين ممثل السينما: «فبينما نرى ممثل المسرح، يؤدي دوره على المقام الكبير، نلاحظ أن ممثل السينما يؤدي دوره على المقام الصغير. وينبغي عليه أن يقلص بدلاً من أن يضخم». وبهذا نرى إبراهيم وقد وعى تلك الفروقات في أعماله المسرحية والسينمائية وأداها باقتدار. وأخيراً، فبالرغم أن إبراهيم تنطبع شخصيته الفنية بهوية التمثيل، إلا أن الجانب الحميمي والمخفي هو انهمامه بالأدب، والشعر خصوصاً. وهذا ما كشف عنه دوره في مسلسل “خيوط المعازيب”، حيث تحققت فيه مقولة فرانك كابرا: «إن كل ممثل يصل إلى ذروته حين يتاح له أن يعبر في دور شخصية تشبهه كأخ له». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (*) كتاب: إبراهيم الحساوي من مسرح القرية إلى شاشة العالم، إعداد: جعفر عمران. (الخبر: جسور الثقافة للنشر والتوزيع. ط1، 2025)