عمر ياغي..

العالِم الذي جمع الأوطان تحت راية العلم !

في لحظة من لحظات التاريخ العلمي المضيئة، دوّى اسم الدكتور عمر مؤنس ياغي في العالم أجمع، بعد فوزه بجائزة نوبل للكيمياء لعام 2025، بالمشاركة مع العالميْن سوسومو كيتاغاوا وريتشارد روبسون، تقديراً لاكتشافهم الذي غيّر وجه الكيمياء الحديثة: الأطر المعدنية العضوية (MOFs)، وهي مواد قادرة على التقاط الجزيئات وتخزينها بفاعلية هائلة، فاتحةً آفاقاً جديدة في مجالات الطاقة والبيئة والاستدامة. لكن خلف هذا الإنجاز العلمي المذهل، تقف قصة إنسان عربيّ متعدد الجذور، واسع الانتماءات، عابر للحدود، اسمه عمر ياغي. ولد ياغي في عمّان عام 1965 لعائلة فلسطينية الأصل، فحمل في قلبه هوية اللاجئ الباحث عن معنى الوجود من خلال المعرفة. درس الكيمياء في الجامعة الأمريكية ببيروت، ثم تابع دراساته العليا في جامعة إلينوي بالولايات المتحدة، حيث بدأ مساره في إعادة تعريف مفهوم المادة نفسها. منذ بداياته، كان مختلفاً، لا يرضى أن يُقلّد، بل يسعى لأن يخلق معرفة جديدة. ومن هناك، بدأت رحلة «الكيمياء الشبكية» التي أسّسها، وهو علم يعيد ترتيب الذرات لتكوين هياكل جديدة ذات خصائص غير مسبوقة، قادرة على التقاط الكربون أو استخراج الماء من الهواء في الصحراء. في عام 2015، فاز ياغي بجائزة الملك فيصل العالمية، وهي المحطة التي يمكن وصفها بأنها نقطة التحوّل الكبرى في علاقته مع السعودية. فقد كانت تلك الجائزة بمثابة التتويج العربي الأول لإنجازاته، والبوابة التي عرّفت العالم العربي بعبقريته. ثم، في عام 2021، أصدر خادم الحرمين الشريفين أمراً ملكياً بمنحه الجنسية السعودية، تقديراً لمكانته العلمية الاستثنائية وإسهاماته في تطوير تقنيات يمكن أن تُسهم في تحقيق أهداف الاستدامة العالمية. كانت تلك الخطوة أكثر من تكريم، كانت رسالة استراتيجية من المملكة بأن العقول العظيمة هي ثروة لا تقلّ عن النفط، وأن الاستثمار في الإنسان هو جوهر التحوّل الوطني الذي تقوده رؤية السعودية 2030. اليوم، والعالم يحتفي بعمر ياغي، ينشغل البعض بتحديد هويته: أهو أردني؟ أم فلسطيني؟ أم سعودي؟ أم أمريكي؟ والحقيقة أنه كل ذلك وأكثر. هو من أصول فلسطينية ويحمل الجنسية الأردنية والسعودية والأمريكية ، وهذا أمر يدعو للإعتزاز أن يجمع هذه الهويات . وهو ابن عمّان، وسليل فلسطين، ومواطن سعودي بقرارٍ كريم، وأستاذٌ مرموق في جامعة كاليفورنيا – بيركلي. غير أن هويته الأعمق هي هوية العلم والإنسانية. لقد تجاوز الجغرافيا ليصبح رمزاً للمعرفة التي لا تعرف الحدود. يقول ياغي في أحد حواراته: «العلم لغة توحّد البشر، لأنه بحثٌ عن الحقيقة، لا عن الانتماء.» بهذه الفلسفة عاش، وبهذا الإيمان صنع مكانه بين كبار العقول في العصر الحديث. لقد أدركت السعودية مبكراً أن التقدّم لا يُقاس بعدد المصانع فقط، بل بعدد العقول التي تصنع الأفكار. ولولا هذا الوعي، لما كانت قد رعت أسماءً علمية مثل عمر ياغي، ولما أصبحت اليوم بيئةً جاذبة للباحثين والمبتكرين من مختلف أنحاء العالم. فمنحها له الجنسية لم يكن مجرد شرف رمزي، بل اعترافًا بأن العلم وطنٌ من نوع آخر، وطنٌ لا تحدّه الجغرافيا، بل يُبنى بالعقول النيّرة والإرادة. فوز ياغي اليوم ليس مجداً شخصياً فحسب، بل هو انتصار للعلم العربي حين يجد من يحتضنه ويؤمن به. إنه يذكّرنا بأن في كل طالب عربيّ طموح، بذرة لعمر ياغي جديد، وبأن دعم الموهبة هو الطريق إلى المستقبل. (!) (*) كاتب وصحافي سعودي