تعبير صغير عن امتنان كبير .

- 1 - تكتنف الكتابة عن الأصدقاء تحديات الانحياز العاطفي؛ بما له من آثار على جودة المكتوب وعدالته. وإن تكن كل كتابة تجربة؛ فإن التجربة تتحول إلى مغامرة في هذه الحالة. وحيث يندر أن يرضى الكاتب عن مكتوبه، فإن رضاه أشد ندرةً في مثل هذه المحاولة. ورغم ذلك أجد أن من المفيد ان نحث أنفسنا على الكتابة عن الأصدقاء لأن مثل هذه الكتابة قد تضيف بعداً لا يدركه الكاتب المراقب عن بعد للشخصية المكتوب عنها، وقد تعزز من مهارات الكاتب في اجتياز هذا الحاجز حتى يحترف اجتيازه لصنع نصوص تخلو من مجاملة أو تحامل يمليه الخوف من المجاملة. وفوق ذلك كله انا مقبلٍ على إنشاء هذه المقالة تعبيراً عن المحبة والوفاء والتقدير لشخصية ثقافية نبيلة كان لها أثرٌ إيجابي في غير محطة من مسيرتي المهنية والثقافية، ولها إسهامات نوعية متميزة في الصحافة والثقافة. شخصية صنعت بجهودها الأصيلة مثالاً نادراً للفعل الثقافي الإيجابي والمتواصل عبر قنوات عديدة، وأبرزت عدداً من الكتّاب والمؤلفين والصحافيين في منابر مختلفة، وأثرت المكتبة العربية بسلسلة كتب شيّقة في أدب السيرة لعدد كبير من المسهمين في تاريخنا المحلي وثقافتنا، فكانت نبعاً من الوفاء للشخصيات والاحداث والحكايات، ومصدراً ملهماً للتأمل العميق في صفحات تاريخ بلادنا الغني جمالاً وأصالةً. ولا شيء يُثقل كتابتي هذه أكثر مما أعرفه عن أبي عبد الله من تعففٍ عن التصدر والسعي للبروز وطلب الشهرة؛ فهو من ذلك النوع النادر من الناس الذين توجت مواهبهم بفضيلة إنكار الذات، واستغنت أنفسهم بحديث أعمالهم عنهم بدلاً من حديثهم عنها. - 2 - أحسبُ أن القارئ لهذه المقالة في غنى عن ترجمةٍ تفصيلية للمثقف والصحافي والناشر والباحث الأستاذ محمد بن عبد الله السيف، أو سردٍ لأعماله المنشورة في كتب تعددت طبعات كثير منها، وذاع صيتها، وكتب عنها من يفوقني علماً وبراعةً. لذا فإني اختار أن أركّز على لمحات عنه استخلصها من تجاربي معه صديقاً، واستاذاً، ومديراً، فقد كنت محظوظاً بمعرفته في وقت مبكّر من عملي الصحافي. قابلته للمرة الأولى في مكتب صحيفة “إيلاف” في الرياض، قبيل انتقاله للمجموعة السعودية للنشر والأبحاث، وقبل ان يطلق مع الدكتور يوسف الصمعان -رحمه الله- دار “جداول” للنشر والأبحاث في بيروت، وقبل سنوات من توليه الاشراف على مركز الملك فهد الثقافي، ومن رئاسته تحرير المجلة العربية، وغيرها من المهام والمسئوليات التي أداها ويؤديها مما لا يسعني حصره. وعلى مر تلك السنوات سعدت بأن أعمل تحت إدارته، ومعه، غير مرة، في أعمال صحافية، أو ضمن لجان وفرق عمل ثقافية، وان تجمعني به عشرات اللقاءات العملية والشخصية. وعلى مر تلك السنوات رأيته يكبر قدراً ومكانةً لكنني أشهد أني لم ألاحظ تغيراً في أخلاق الرجل وطباعه وأسلوب معاملته؛ فما زال ذلك المثقف والصحافي الذي قابلته في “إيلاف”. إنه بكلمات مباشرة رجلٌ لم تغيره المناصب والمسئوليات، ولم تؤثر في تواضعه النجاحات المتلاحقة، ولم يخفت شغفه بالقراءة والاكتشاف والكتابة، ولم يثنه شيء عن تقديم المشورة الصادقة والأمينة. - 3 - إذ أحاول أن أضيف لمن لم يعرفه عن قربٍ فدعني أحدّثك أولاً عن سماته متحدثاً؛ مما قد لا تبرزه أعماله المنشورة، ويغيب عن كثيرٍ من قرّاءه لقلة ظهوره. إن الأستاذ محمد السيف متحدثٌ مسترسلٌ يجمع بين دقة المعلومة وصراحة الرأي؛ دون إخلالٍ بمتعة أو نقصٍ في جاذبية. تتحلى أحاديثه بطرافة، وتتسرب منها لمحات الفكاهة المعبّرة عن دقة الملاحظة، وبراعة التقاط المفارقة. ورغم ما يبدو عليه حديثه من انطلاق وعفوية إلا أنه منظّم فيما يطرحه، يحافظ بشكلٍ مدهش على بلوغ هدفه من كل جانبٍ يتعرض له، او إضافةٍ يقرر التعليق بها. بسيطٌ في غير سطحية، وعميقٌ دون تعقيد. وهو بالإضافة إلى ذلك مستمعٌ يتقن الإصغاء، ومحاورٌ بارعٌ ستدهشك دقة أسئلته واختياره المتقن للحظتها. - 4 - أحاول ان أوجز لك أسلوبه في الإدارة؛ في حدود ما اشتركت فيه من أعمال تحت إدارته. يجمع الأستاذ محمد السيف بين البعدين الإداري والثقافي ضمن توازن فريد بينهما. وهو مدير لا يمنح ثقته مباشرة؛ بل بعد تجربة كافية، وعندما يمنحها لا تكون ثقة مطلقة إذ يدعمك ويتابعك بدقة. وبقدر ما يجيد التفويض، ويشجع فريقه على العمل، ويمكنّهم بالصلاحيات؛ فإنه يعمل بنفسه في انجاز الاعمال وإنشاء الاقتراحات. وهو مكتشفٌ دقيق للمواهب الصحافية والبحثية، وفاحصٌ عميقٌ للأفكار والاقتراحات المعروضة عليه. وهو رئيس معتدلٌ في إظهار تقديره، وغير متأثرٍ بثناء مرؤوسيه. - 5 - ختاماً، وفي حدود المساحة القصيرة المتاحة، فإني أشير إلى أن محمد السيف مؤلف متميز باختيار موضوعاته، وجدية بحثه في التاريخ والسير الذاتية، ومحاولته الحثيثة لعرض رواية متوازنة ودقيقة عن الشخصيات التي يتناولها في كتبه. وأنه نموذج نوعي في الإدارة الثقافية المحلية؛ فقد نجح خلال فترة إشرافه على مركز الملك فهد الثقافي في تحويله من مكان إلى فاعل ثقافي، لا يكتفي باستضافة البرامج والفعاليات بل ينتجها في صورة ملتقيات ثقافية وبرامج أدبية ومعارض فنية. مثلما استطاع خلق شخصية نوعية للمجلة العربية في عنايتها بطرح الملفات والقضايا الثقافية العربية التاريخية والمعاصرة، دون أن يغفل إبراز تاريخ المجلة وأهم أعمالها في عهود من سبقوه لرئاسة تحريرها. وكوّن خلال مسيرة ممتدة تجربة متراكمة في إصدار كتب لافتةً في مجالات عدة من أبرزها الفلسفة والأدب والتاريخ المحلي والعربي والسير الذاتية عبر دار جداول للنشر؛ التي صارت في سنوات قليلة علامةً بارزةً في النشر العربي، توازن بين الدراسات المنضبطة منهجياً والترجمة والابتكار الفني.