السيف.. موازنة النصل بين الإنصاف والعشق.

سأقول أنّه منصف بالقدر الذي تُوجبه المعرفة البحثية ودقة المعلومة من صرامة الطرح وموضوعية التناول، بينما يدفعُ باحِثَنا عشقُ السيرة وتقديرُ الشخص (الراحل)، ذلك عدل محمد السيف وهو ينشر مجاميع كتب اعتلت رفّ السيرة وأدبها بالمكتبة العربية، واتخذتْ لها المكانةَ البارزة في الطَرْقِ والمعالجة الحصيفة. وهناك التزام مع الجغرافيا فرضته المرحلة التي حددها لأعماله. وهو ما نلمسه في اختيارات فطنة روافعها امتياز الشخصية ونصاعة سجلها وجِدّة مواقفها، فلم يُبرز العادي عند القارئ، ولم يُؤثر الخاص والأقرب؛ بل اعتاد أن يُشكّل النادرَ مجدداً، فلا يُكرر الضوء على ما سبق كشفه، وإنّما يقود البصيرة إلى طلع وليد من الحكاية المكتوبة، وما بلغه أحدٌ من قبل. والاستشهاد على ذلك كثير بداية بكتابه “عبد الله الطريقي.. صخور النفط ورمال السياسة” 2007، فكتاب “سيرتهم.. صفَحات من تاريخ الإدارة والاقتصاد في السعودية” 2011، ومنهم وكيل (الملك المؤسس) في شقراء عبدالرحمن السُّبَيعي، ورائد الأعمال عبداللطيف العيسى، ومستشار ملوك آل سعود منير العَجْلاني، ورجل التنوير عبدالعزيز التويجري، وسيد الإدارة الحديثة محمد الطويل؛ ويُلاحظ من تلك السير استمرار الباحث السيف على فرادة الشخصية وثقل التأثير الماثل في المسيرة، سواء في الإدارة أو الاقتصاد أو الدبلوماسية. وعندما نجد التمسّك بمرحلة محددة دون غيرها يتمظهر الشغف بشخصيات تُعدُّ علامات فارقة في تاريخ المملكة العربية السعودية (الثالثة)، ومنهم مؤسس جامعة الملك سعود والعَلَم الكبير في تاريخ التعليم والعمل الدبلوماسي السعودي وهو “ناصر المنقور”، ورجالات فترة التوحيد ومنهم “رجا بن مويشير” الذي يعود له دور كبير في ضمّ منطقة الجوف للدولة الحديثة قبل ما يُقارب مائة عام من الآن. يُضاف لذلك استعادة النصوص الأصلية لبعض الأعلام وتحديثها، مثل كتاب نجيب المانع “ذكريات عُمر أكلَته الحروف: النصُّ الأصلي والكامل”؛ لينشر بعنوان “نجيب المانع.. حياته وآثاره” 2022، ومستشار الملك المؤسس “حمزة غوث.. سياسيُّ دولتَين وإمارة” 2023، و”أحمد الشيباني أو ذيبان الشمَّري.. سيرته، فلسفته، معاركه” 2024، وهو ما يأتي عميقاً في التعريف بمثقف نوعي ما كسب الصورة كاملة؛ لأنّه لم يتخذ من ثقافته واطّلاعه وخوضه للحياة منافع محدودة تنحصر على تسيّد المشهد أو قيادة التيار المنحاز؛ فالشخصية ـ الشيباني أو الشمري ـ كانت المستقلّة بالوعي وشرف الموقف، وهو ما يعرضه السيف بتقدير منضبط وبمادة متكاملة. وهو يبني حكاية الفرد، لا يصوغ السيف ملامح البناء المبكر في الدولة وحسب، بل وأيضاً يُساهم ببلاغة خاصّة في التاريخ الموازي عبر “الفرد” الذي جعل منه بوصلة نحو مرآة المجتمع وذاكرة مضيئة على درب الوفاء. وبالالتزام المرن، القادر على تقديم المادة الأصيلة بشروطها الصارمة ومواءمتها مع ظرف الدهشة وتحريضها على الكتابة، استطاع السيف أن يُفكك الحُجب عن تلك السير بأدوات نابهة ومصادر تكاد تكون عصية على عديد الباحثين، ذلك أنّ بعض الشخصيات ينقطع عنها تواتر الحديث وفي أحيان ينحصر ذكرها بين الأهل فقط دون تدوين محفوظ، وهو ما يجعل المادة الحديثة معدومة، كما الحال بالنسبة للسفير الفذ ـ المندوب الدائم للمملكة في هيئة الأمم المتحدة ـ “جميل البارودي” ـ لبناني مسيحي ـ، وهو أول سفير سعودي في أمريكا وهيئة الأمم. ورغم ريادة الصحافة في لبنان والإصدارات ذات الاهتمام بأبناء لبنان في المهجر إلاّ أنّ هذه الشخصية لم يُلتفت إليها بمؤلَّف خاص؛ عدا لقاء في صحيفة النهار أو خبر في نشرة عالمية. لقد أجاد السيف تنقيبه وأخرج كتابه المبهر “جميل البارودي سيد الأمم” 2025؛ متتبعاً حكايات متداولة وأخبار موزعة على أكثر من بلاد عن هذا الرجل (الجدل) والسفير المتعدد منذ الخمسينيات الميلادية. قدّم لنا شخصية يجهل الكثير دورها وفاعليتها في لحظة تاريخية من عمر القانون الدوليّ ونشوء الالتزامات في المنظومة الدوليّة التي برع فيها السفير بارودي وشغل منصبه بامتياز ليُعزز مكانة المملكة وصوتها تحت قبة الأمم منذ عقود بعيدة. ما يقارب خمسة وعشرين عاماً في كتابة السير يسترد السيف ملامح كبرى من تاريخ البلاد، ويرسم خرائط الأثر العابر على امتداد نهوض الدولة. وبهذا المسعى في التوثيق ساهم بافتنان في ذخيرة أرشيف الدولة، وبنبض إنساني حميم يحاور مختلف التجارب لأُولئك الفاعلين الملهمين. وحتّى لا تفنى الذاكرة أو تبقى حبيسة “الدائرة الضيقة” سرد الباحث على طريقته ما ينقل شفوياً عن الشخصية ليرفع ذلك المنقول إلى منزلة المرجع الثابت؛ فيُعطي لذلك التاريخ الشخصي الصوت النابض والحيّ بتعدد وسائط التلقي والاطّلاع. إنّ هذه القراءات العالية من السيف تأتي صوناً للذاكرة الوطنية، وأداءَ أمانةِ الواثقِ بكتابه؛ فقد جَمعتْ إصداراته حمولات المعرفة من جانب، ومن جانب آخر أحياها الوجد الإنساني المأخوذ بالمنجز الرفيع وبالأثر الممتد. وما كان لهذا الجهد المثابر أن يعلو ويستمر لو لا التحليل النابه والنقد الواعي، وهو ما يتطلب العرفان التامّ لهذا الدور العزيز على كلّ مَنْ لـمِـسَ تأسيساً مختلفاً وعروةً أمينة بين الأجيال فيما يُصدره محمد السيف وعبر رُؤى فاحصة زادها صدق البذل والعطاء. * (تونس ـ سبتمبر 2025)