قراءة في رواية الدكتور ماهر الرحيلي (ما قبل الحكاية)..

فضاءات كونية ومصائر حتمية وخفايا مستورة وتقاطع بين عوالم الجسد والروح في إطار جمالي متعدد الأبعاد.

في روايته الأولى (حين تحكي الروح) جاء على لسان السارد (الروح) “في المرة القادمة – إن استطعت – أريك النافذة التي فتحت لي هي باختصار نافذتي التي حفرت تفاصيلها في دنيا بما قدّمت” وهاهو في هذه الرواية يفتح أبواب النافذة التي وعد بها مُسترجعاً ذاكرة الروح عما قبل انفصالها عن الجسد . إنها الرحلة و القطار والرفقة ومعالم الزمان و المكان والخطاب الذي يمتح من الذاكرة ويتاملها ، والحوارات الممتدة على طول المدى ؛ فالحياة مجرّد رحلة لا تفارق فيها الروح الجسد ؛ بل تفتح نوافذها على الأشياء و الأحياء ؛ إنها تستذكر عبر نوافذ القطار الذي يرمز إلى مسيرة العمر من مكمن الجسد ومنطلقات الروح بعد افتراقهما؛ وعبر النوافذ تتدفّق المعارف والمواقف و الشواهد و الذكريات والانتقادات : ويتسلّط الضوء على السائد والشائع من الثقافات و المسالك والرؤى والحوار مع الذات ؛ يشير إلى ما ساد من أدبيات حول تطوير الذات و يوميء إلى تجاربه مُحاوراً ومُستذكراً ما لقنته الحياة والثقافة من دروس، مستغرقاً في خطاب التأمّل و الاستذكار وحديث النفس ،و الحوار المتخيّل مع الصديق الملحاح والهرب من الذات و الأسئلة الثقيلة . وبعدُّ القطار الذي رمزاً لرحلة العمر، و تأتي الشلالات على التخوم الفاصلة بين الرمز و الحقيقة - وإن طغت رمزيتّها - في وصفه المباشر لما سمّاه (شلالات العمر) ولامس كثيراً من منحنياتها وتدفّقها من مسائل : التجربة الذاتية ، العلاقة بين الرجل و المرأة والفرق بين تنظيم الوقت زمنياً و روحيّاً، لقد أفرد لهذه الشلالات فصلاً كاملا ًمن فصول الرواية كما فعل بالنسبة للقطار، وقد فلسف الحياة وجعلها بموازاة الشلال؛ حيث البدء من الأعلى في حين جعل الزلازل و البراكين ترمز لليدء من الأسفل ، وهذه الظواهر الطبيعية رموز مفتوحة تضيء موقف الكاتب وفلسفته الحياتية عبر النوافذ المفتوحة على السيرة الافتراضيّة ، وفي كل فصل من الفصول يتّخذ محوراً يطل عليه من نافذة جديدة ، وحين يختار عنوان الفصل يجعله مفتاحاً للتأويل ؛ ففي الفصل المعنون ب( ذكريات تُكتب لتًمحى) يسجل موقفاً لا يحتاج تأويله إلى الكثير من التفكير؛ فهو يستخفي في إطار رمزي مُشتقٍّ من الفضاء المكاني (الجليد وأعلى القمم) فينحو منحيين في الرّد موازيين للجليد و القمم : المرأة الأوروبية و أسئلتها الاستنكارية الموحية بالصورة النمطية التي تختزنها ذاكرة الأشقاء عن العربي البدوي ،ثم الانتقال مع الذكريات إلى الوجه الحميمي المقابل الجدّة بما تحمله من معنى البشارة وما توميء إليه من ذكرى ؛ ثم الانتقال إلى الفندق حيث الفجوة السرديّة التي تتيح لصاحبها التحليل والتعليق والتوصيف واستكمال الموقف عبر الحديث مع الآخر (السائق) وهكذا يمضي في فصول الرواية، حوارات مستمرة بين الرفيقين في رحلتهما الأوروبية في المطاعم والاستراحات في قمم الجبال ،ولقاءاتهما مع الآخرين (الرجل المسِن و الفطيرة والذكريات ضمن تلك النوافذ المفتوحة على مضي الوحدة بين الحسد و الروح ، حيث الذكريات المأساوية. .اللافت في هذه الرواية ثلاثة ظواهر المحيط المكاني فضاءات كونية يستثمرها رموزاً معادلاً موضوعيّا لدلالات بعيدة تتّصل بفلسفة الحياة و الأحياء ،مثل الشلالات والجليد وما إلى ذلك، وقابليتها للتأويل في السياق التي ترد فيه عبر، و جدل الظاهر و الباطن ، والنفسي و الاجتماعي، والوطني والأجنبي، والقريب و الغريب ، في إطار البعد الثقافي و الحضاري (الأوروبية العجوز و الجدة بشارة) ثم الحيز المادي مسرحاً للحدث ومساحة للحوار ، وانطلاقا للحدث (الفنادق و المطاعم و السيارات والطائرات) والبعد المعرفي و التاريخي شاهداً و برهاناً ، مثل استدعائه للمثل الصيني و مقولة الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف وآرطغرل، والأماكن المتحرّكة بما تمثّله من رموز فكريّة ونُقلات ماديّة عبر الأمكنة (القطار) و (الحافلات) فالأولى رمز كلّي يمثل إطاراً، له بعده الدلالي الشمولي ، و الثانية ذات بعد اجتماعي قريب المتناول وسهل التأويل ؛ أما الحورات فهي الكشّاف الذي يضيء العلاقات والأفكار ويفيض بالأحداث و الأخبار و الهواجس,وللمكان دلالات نفسيّة وثقافيّة مزدوجة ، وروحية في سياق السرد وعند مفاصل الخطاب والقص ، فحين يتوقف الصديقان في مفترق الاتجاه نحو الأماكن التي يقصدونها ، يومئان في حوارهما إلى تلك الدلالة : الموت وما يثيره في النفس و أضرحة الشخصيات وما توميء إليه من دلالات ثقاففية و روحيّة ، قبري روميو وجولييت ومنزلهما ، وما تثيره أشياؤهما من مفارقات الحياة وعجائبها . أما الخطابات التي تأتي تعليقاً أو وصفاً آو حديثاً مع النفس ومكاشفة لها وتضمن تحليلات وتفسيرات واسترجاعات لمخزون الذاكرة ، و اعترافات وفلسفات تتصل بالرومانسية بأبعادها الوجدانية ومفارقتها للمقام و معنى الموت و الحياة ، وما تحفل به من تنبُّؤات وبثٍّ مباشر لمكنونات النفس وأصداء المشاهدات و الوقائع و السرائر، فتحتلُّ حيّزاً مهماً في الرواية و تكشف عن طابعها الفلسفي الرؤيوي . “شعرت بسعادة غامرة لمغادرة المكان ، كنت أتأمل كيف يمكن لمكان ضم أجمل لحظات النشوة و السعادة يوما ما أن يكون مكتظاً بالقتامة و الكآبة لهذا الحد الآن على الأقل بالنسبة لي “ وعلى هذا النحو في المزج بين المتناقضات يسترجع الحوار التجربة العاطفية (علاقة الحب مع الحبيبة) مازجاً تلك الذكريات بروح السخرية وفق رواية مجاهد لحامد - إن لم تخني الذاكرة - في موقفٍ تتداعى فيه الوقائع في أعقاب زيارة موقعَي العاشقين (روميو وجولييت) وانسياب التداعيات يأتي في سياق السرد ، بما يذكر بتقنيات السينما في مونتاج القطع عبر دائرتين متقاطعتين زمانيّاً و مكانيّاً ، وفي إطار هذه التداعيات تنفتح مزيداً من النوافذ على الموت والذكريات؛ إذ تتداعى الأنباء بحادثة موت العم ممدوح والجد عبد الله الصارم و تتدفق ذكريات جديدة . وتأتي النهاية (نهاية الرحلة التي ضمنها عشرة فصول من فصول روايته الثلاثين) تحت عنوان شملها جميعاً (بريء يهرب) ضمت وقائع وهواجس وخواطر تلك الحقبة التي ابتعد فيها السارد عن موطنه سائحاً مُغترباً ، وتأتي الوحدة الثانية من فصول الرواية التي عنونها ب(العودة المحتومة ) التي تبدو علامة مزدوجة على الرحلة الهاربة والعودة القاهرة، وهما وجهان للحكاية العائدة التي يقف بها الكاتب على التخوم بين المصائر و النوافذ (سرديّة الروح واسترجاعاتها لذاكرة الجسد ) وهنا تبدأ الرحلة الجديدة فوق جسر المعاناة و أحلام الخلاص مع (خليل) الذي يقف على الحافة بين العالمين ؛ ولكن الروح تبثُّ اعترافاتها وهي على تخوم الموت ، وتتخلّص من أوزارها وتفتح نوافذها مشرعةً على الحكابة من أولها عبر الحوار الحميم الذي أداره الكاتب بكل مهارة ، وظلّ حريصاً على الصلة الواصلة بيت العالمين ، وكأنّه يتحرر من أثقال الجسد قبل أن تمضي الروح إلى مستقرها ، ويحرص على أن يجعل النوافذ محتشدة بكل ما يكفل البقاء في خِضَم الحكاية ونوافذها المشرعة وتفرعاتها وحكاياتها وأسرارها وذنوبها وأوزارها . تحتشد الروية يشخوصها الذين تتقاطع اهتماماتهم و تتجاور رؤاهم ؛ فهم الشركاء وهم من ظلوا في عين الرؤيا التي تطلّ عليهم من النافذة ؛ فهل كانوا يمثّلون تعددَ الأصوات و اللغات في هذا النص الروائي، كما أومأ إليها باختين في نظريته عن حوارية (الرواية) أم ظلّ الصوت أُحادياً بلغته الآمرة وصوته المفرد: صوت فارس الإطار الرئيس الذي يحتوي مختلف الأبعاد الذي أهديت إليه الرواية ، وخليل الجسر الواصل بين المستقرالمسيّج والمحاصر في عتمة المرض النفق المؤدي إلى المحبس الأبدي. ولعل اللافت في أسماء الشخصيات أنها جاءت جميعها على وزن اسم الفاعل: حامد فارس مجاهد والصفة المشبهة (خليل) ولم تأتي هذه الأسماء صدفة ؛ بل هي علامات سيميائية تجعل من هذه الشخصيات (فواعل) ذات حراك حيوي مُستدام يتحملون أوزار أفعالهم . إن الخطاب في الرواية يكاد يطغى على (التاريخ أي السرد) وفق مصطلحات الشكلانيين الروس ؛ ما يجعل الطابع الفلسفي مؤطراً للرؤيا فيها مع الرواية الأولى ، ومع هذا فإنها ذات ثيمة أصيلة تعالج جوهر الحياة والمصير ، وتنطلق من المفهوم الفلسفي المجرد لتتدفق من خصوصية التجربة التي تتقاطع معها، وتلتقي في بؤرة سردية تجمع بين رمز الرحلة والسيرة والرواية ما يجعلها مؤهلة لنوع من الأداء السينمائي الفريد الذي يرشّحها لاقتحام هذه البوابة المهمة في عالم السينما . كنت قد أشرت من قبل إلى البولوفونية في الرؤى والتعدّد في الأصوات ؛ الأمر الذي انعكس على لغة الرواية ذات المبنى الحواري و الخطاب الفلسفي التأملي، والفصحى و العامية (اللغة الفورية المحلّية الطابع) و الفرانكوعربية على لسان الفلبيني غير العربي في مزيج تهجيني اقتصر على بعض المشاهد الحوارية. وكنت قد أشرت من قبل إلى الترتيب الدال للفصول و محاورها مما يحتاج إلى وقفة طويلة لعلني أعود إليها في دراسة أشمل يتسع فيها المجال للمزيد ؛ فهذا العمل الروائي حافل بالرؤى ثريّّ بالدلالات.