سيكولوجية المثقف العربي.

شهدت الثقافة العربية حالات من الانبعاث في عصر الخليفة العباسي “المأمون 789 – 833 م” الذي شجع ترجمة العلوم والفنون والآداب والفلسفة من اليونانية والفارسية، ونقلها إلى اللغة العربية، مما كان له كبير الأثر في نشوء حركة ثقافية عربية جنينية، حيث برز عدد كبير من العلماء والأدباء والفلاسفة، ولكن لم يكتب لهذا الانبعاث التألق أكثر من مائتي عام، فقد انطفأ تمامًا في عصر الدولة السلجوقية على يد “الإمام أبو حامد الغزالي 1058 - 1111م” صاحب كتاب “تهافت الفلاسفة “ ثم عادت الشعلة لتضيء مرة أخرى بعد عشرين عامٍ بفكر الفيلسوف الأندلسي “ابن رشد 1126 – 1198م” مٌصَنِّف “كتاب تهافت التهافت” الذي نافح عن الفلسفة، بصلابة تامة وبالذات الفلسفة الإغريقية، وقد تَعَرَّفَ مفكرو عصر النهضة على الفلسفة اليونانية ومدارسها المتعددة من خلال مؤلفات “ابن رشد” و”ابن حزم” بالذات تلك الكتب التي سَلِمَت من الإحراق بفضل ترجمتها من العربية إلى لغات أخرى. وهكذا تراوحت الثقافة العربية بين الانبعاث لفترات محدودة، والانطفاء ردحًا من الزمن. فلم يعرف المثقف العربي استقرارًا في موقعه ولا في هُوِيَتِه، حتى في العصور المتأخرة فقد ظل يتأرجح حائرًا بين أدوار متناقضة: من المُصْلِح النهضوي، إلى المُبَشّر الإيديولوجي، وصولًا إلى الكاتب الهاوي. انتهاءً بالمثقف المكتئب المنطوي على ذاته. هذه الأزمة ليست عابرة، بل هي معضلة بنيوية، تلازم علاقة الثقافة بالمجتمع منذ إحراق كتب الفلاسفة، وقتل آخرين مثل “ابن المقفع” و “الحلاج” حتى يومنا الحاضر. ولا استبعد أن كل هذه الجراحات لا تزال غائرة ومؤثرة في سيكولوجية الثقافة العربية. وفي العصر الحديث بدأت ملامح أزمة المثقف العربي الحديث بالتشكل مع فشل مشروع النهضة العربية في القرن التاسع عشر. فقد كان رواد النهضة – أمثال “رفاعة الطهطاوي1801 -1873م “ و” جمال الدين الأفغاني 1838 – 1897م” يحلمون بنقل قِيَم الحداثة الأوروبية إلى الشرق، لكنهم اصطدموا بجدار البنى الفكرية التقليدية العميقة، وبالاستعمار الذي استنزف موارد المنطقة. ومع منتصف القرن العشرين، حين صعدت المشاريع القومية واليسارية، شعر المثقف العربي أنه وجد مكانه الطبيعي: مثقف يكتب للأمة، ويحلم بالتحرر من نير الاستعمار. غير أنّ نكسة 1967م كانت لحظة كاشفة كوت الوعي العربي، ولم تُبَلْسِمُها انتصارات 1973م إذ انهار المشروع القومي، وسقطت الطموحات الكبرى، بل إن الثقافة العربية في وضعها الراهن تشضت بين الدولة الوطنية، والعروبة الجامعة. ومنذ ذلك الحين، تعمّق الشعور بأن المثقف العربي يعيش مأزقًا متجددًا، بين إرادة التغيير وعجز الواقع. وفي هذا السياق شدد المفكر المغربي “محمد عابد الجابري 1935 – 2010م” على أن الأزمة الحقيقية ليست في استيراد المفاهيم، بل في العجز عن ممارسة نقد العقل العربي، أي تفكيك البنى التراثية التي تعيق الحرية والعقلانية. كما أشار الفيلسوف المغربي المعاصر “عبد الله العروي” إلى أن المثقف العربي ممزق بين عقل حداثي يسعى إلى التغيير، وبين أيديولوجيات تقليدية لا تحتمل النقد، وقال إن “المثقف العربي يعيش في زمن غير متزامن، فحاضِرُهُ محجوب بماضيه، ومستقبلُهُ مُثْقَلٌ بعجزه” هذا الانشطار جعل الكثير من المثقفين أسرى مواقف مضطربة، فلا هم قادرون على التماهي مع الواقع، ولا هم يملكون القدرة على تغييره. هكذا وقع المثقف بين مطرقة التراث وسندان الحداثة، بين انشداد إلى الماضي وانبهار بالغرب، من غير أن يبلور خطابًا أصيلًا يُعبّر عن الذات العربية في راهنيتها. هذا وتتجلى سطحية المثقف العربي في أبعاد متعددة ومتداخلة تشكل في مجموعها أزمة حقيقية تحتاج إلى مراجعة جذرية. من ذلك شبق المثقف على استحضار أسماء المفكرين العظام، واجترار أفكارهم دون هضمها، هذه السطحية ليست مجرد نقص في المعرفة أو الثقافة، بل هي أزمة منهجية تتعلق بطريقة التفكير والممارسة الفكرية والعلاقة مع المجتمع والواقع. لقد أضحى المثقف العربي المعاصر كالمزارع البسيط الذي يعتمد على المياه الضحلة، لافتقاره إلى الإمكانات الكافية للتعمق نحو المياه الجوفية الغزيرة. في مقال سابق بعنوان “المثقف.. بين غرامشي وفوكو وسعيد” نُشِرَ في “مجلة اليمامة” بتاريخ 12/08/2021م ذَكّرْتُ أن كثير من المثقفين العرب وقعوا في أسر ثلاث عقد نفسية مشؤومة أفقدتهم مقاعدهم في قطار الثقافة العالمية السريع، وأبقتهم قابعين في المحطات التي نشأوا فيها، وإن شئت فقل في “كهف أفلاطون” فلا يكادون يبرحون أمكنتهم، ولا يرون من الأشياء إلا انعكاساتها، إنها “عقدة الانحياز التوكيدي” المتمثلة بالميل الدائم إلى المعلومة التي تؤكد القناعات الراسخة منذ الطفولة وتدعم التصورات المسبقة، مما يجعل المثقف يعيش في شرنقة مغلقة من الأفكار المؤكدة لذاته. و”عقدة الانتقائية” والكيل بمكيالين أو ثلاثة أو حتى أكثر من ذلك، حيث تجد المثقف يتعاطف مع قضية معينة برزت في موقع ما، ويناوي قضية مثلها حدثت في موقع آخر، مما يفقده المصداقية والثبات على المبادئ. أما اشأم العُقَد فهي “عقدة المخادعة” التي تجعل المثقف يتحدث أو يكتب ضد قناعاته الشخصية، وقد يصل به الأمر - والعياذ بالله - إلى حد الكذب، دون أن يتمعر وجهه أو يشعر بالخجل. هذه العقد النفسية وغيرها تعكس أزمة عميقة في نفسية المثقف العربي. من الأسباب الأخرى التي أربكت دور الثقافة في صياغة وعي عربي حديث هو محاولة كثير من المتعلمين التحول من كونهم مستودعات زاخرة بالمعارف الحديثة، إلى مثقفين مبتدئين دون أن تكون لديهم الموهبة النقدية والقدرة المؤثرة في الوعي الجمعي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تحوّلت الثقافة العربية في زمن الإعلام الرقمي، إلى سلعة تباع وتشترى، حيث نشهد كثير من المثقفين صاروا يكتبون على منصات التواصل على مقاس السوق: مقالات قصيرة، وشعارات سريعة، أو محتوى يثير الجدل. بذلك تراجعت صورة “المثقف الضمير” لتحل محلها صورة “المثقف المؤثِّر” وكي لا تتسلع الثقافة وتنزلق نحو الاستهلاك، يتحتم على المثقف ألا يقاطع الفضاء الرقمي، بل ينبغي أن ينخرط فيه لكن بوعي، ليس كمؤثر، بل كصوت نقدي يستخدم الأدوات الجديدة دون أن يفقد عمقه الإنساني. كل هذه التحولات وغيرها، أعادت محاولة تعريف المثقف: هل هو الكاتب المفكر العميق في تحليلاته وتصوراته، أم ذياك “المؤثر” الذي يقيس نجاحه بحجم المتابعين وعدد الإعجابات؟ كما أن التغيرات الدراماتيكية التي شهدها عدد من أقطار العالم العربي خلقت نوعًا من ارتباك الوعي، وتقلبات في المواقف لدى كثير من المثقفين العرب، حيث تبدلت المواقف وتغيرت الاصطفافات. لقد تحولت المطامع المالية إلى أثقال أربكت من هرولوا في ركابها. وقد حذر من ذلك مبكرًا الكاتب الأمريكي فلسطيني الأصل “إدوارد سعيد 1935 – 2003م” قائلًا “يتوجب على المثقف أن يقف إلى جانب القيم الإنسانية لا المصالح الضيقة”. تظل أزمة المثقف العربي صورة مرآوية دقيقة لأزمة العالم العربي ذاته، فالمثقف ليس طائرًا يحلق خارج فضاء أمته، بل هو ابن بيئته، يتأثر بانكساراتها ويحمل أوجاعها، وإن الخروج من هذه الأزمة يتطلب من المثقف العربي أن يتخلى عن نزعاته النخبوية، وأن يعيد بناء علاقته مع المجتمع على أسس من التواضع الفكري والحوار المفتوح. كما يتحتم عليه أن يطور تصوراته الفكرية وأدواته المنهجية، ليكون قادرًا على فهم الواقع المعقد وإنتاج معرفة أصيلة ومبتكرة. وفي نهاية المطاف، فإن مصير المثقف العربي مرتبط بمصير مجتمعه، ولا يمكن له أن ينهض بدوره الحقيقي إلا من خلال الانخراط الفعال في قضايا أمته وتحدياتها. وإن فهم هذه التجليات، والتعمق الواعي في مضامينها يتطلب نقدًا بَنَّاءً يهدف إلى تطوير دور المثقف وتفعيل مساهمته في النهضة الحضارية، بدلًا من الاكتفاء بالنقد غير الواعي أو التبرير المفرط للواقع. حقًا إن الطريق طويل وشاق، ولكنه ليس مسدودًا، فالتاريخ يعلمنا أن فترات الانحطاط والتراجع هي التي تلد - غالبًا - بوادر النهضة والتجديد. ولعل هذه الأزمة التي يعيشها المثقف العربي اليوم، تكون هي المخاض الذي يسبق ولادة جيل جديد من المثقفين، يكونوا أكثر ارتباطًا بواقعهم، وأكثر قدرةً على إنتاج فكر حر ومبدع. وعلى المثقف أن يكون ناقدًا، لا مُصَفِّقًا، وأن يتذرا تحت سقف العقلانية، أمام العواصف الصاخبة من التشدد والتغول والانغلاق، ليظل للمثقف دور هام لا يمكن الاستغناء عنه. فالثقافة هي محصّلة القيم الإنسانية المشتركة التي تُعبّر عن النفس البشرية في تجلياتها المختلفة، وتميط اللثام عن أرقى مستوياتها العقلية والأخلاقية. وإزاء هذه الانعطافات الحادة يتوالى عدد من الأسئلة الملحة: ما هو دور المثقف العربي؟ هل هو ضمير المجتمع الحيّ، أم مجرد شاهد على الهزائم العسكرية، والانكسارات الثقافية؟ أما السؤال الذي لا يزال يؤرق الذاكرة العربية، بل يجلجل كجرس كنيسة القيامة: هل عجزت الأمة العربية عن إنتاج ثقافة مبدعة؟ وهل تُرتجى قيامة جديدة للثقافة العربية؟ أم إن الثقافة العربية تقاعست عن صناعة حضارة خلاقة؟ لقد ظلت كل هذه التساؤلات وغيرها منذ قرون حاضرة كجروح مفتوحة في وعي الأمة العربية، لكن الأمل كبير وكبير جدًا، ولا يقل عن حجم الألم.