مُغْتَسلٌ.

سيمرُّ وقت طويل – على الأغلب – قبل أن أستسلمَ لفكرة الحصول على الخضراوات والفواكه عبر تطبيقات الشراء. ما زلتُ على ولاءٍ خالصٍ للشراء التقليديِّ الذي يتضمَّن استعمالًا مكثَّفًا للحواسِّ، وحلولًا سخيًّا نادرًا يهب الجسد فرصة للاتقاء بنسخ عن الطبيعة، نسخ ما زالت تناضل من أجل بقائها، ولهذه الرحلة القصيرة إلى تلك العوالم الملونَّة، رحلة تزداد متعةً مع ضمِّ خبرة إلى أختها في مسائل التوقيت والانتقاء والمصادر. من قائمة «كلِّ شيء» التي أحملها ستكون الخضراوات والفواكه هي الأخيرة في قائمة ما هو واجب الشراء؛ إنَّه نظام رعاية المواد الطازجة التي تندى حياتها قطرة تلو قطرة كلمَّا امتدَّ بها الوقت: لتكون بمنأى عن الدوران، واحتمال العطب تحت ثقل غيرها من المشتريات، ستكون دائمًا في أعلى العربة، أو في فسحة غير مزاحَمة، في مأمن عن كلِّ ما يمكن أن يجرح طراوتها، أو يلبِّد أوراقها المشبعة بالحياة؛ حالة هي أقرب إلى ملاطفة الضحيَّة قبل افتراسها. زيارات متكرِّرة ترجِّح الوقت المثاليَّ لقطف شباب الثمرة في ذروته من على الرفوف الباردة، ثمَّة لذَّة فريدة في رؤية العربات الآهلة بمحاصيل اليوم، الثمار القريبة العهد بالتربة والأغصان والندى والضوء، ثمرات تعلق بها زهرات ولادتها في شيء من بشاشة لا تليق بموت طريٍّ، لذَّة قصيرة للحواسِّ في مدينة تقاوم الجفاف وتشرب كلَّ قطرة من نداوة نادرة. أظنُّه تواضعًا عالميًّا رتَّبته الخبرة هذا الذي جعل نظام منطقة (الخضراوات والفواكه) يكاد يكون متطابقًا في كلِّ مراكز التسوُّق، مقاربةٌ تسترشد بقوانين المائدة: المقبِّلات والسلطات، مكونات الطبق الرئيس، ثمَّ التحلِّي بالفاكهة. ثمَّة شذوذات تقطع هذا الانتظام، لكنَّه شذوذ يسبِّب مزيدًا من فضول التجوُّل ودهشة الاكتشاف. أبدأ عادةً بمرجِ الورقيَّات العارم الخضرة، خضرة بتدرُّجات مختلفة، بين وقت وآخر يهاجم هذا المرج – بلطفٍ – رذاذُ ماءٍ حارسٍ يمرُّ به العامل – سريعًا – على الرفوف، يكلأ حياة الأوراق القصيرة بهذا الندى المستعار؛ فيغوي هذا اللمعانُ الطارئ الأيدي للقطفة الثانية، قطف الصُّرر من تربتها الحديديَّة الباردة. على ذلك المرج يتجاور الخسَّان: الأمريكي والصيني أو يعلو أحدهما الآخر، لم أمرَّ يومًا دون أن تراودني السياسة عن صراعاتها، أضحك من نفسي وأنا أحمِّل رفوفًا مشبعةً بنضارة الكلوروفيل أكثر ممَّا تحتمل. لماذا لا أضع السياسة جانبًا وأكتفي بدسِّ أنفي في حرير الروائح؟! لكنَّ الأمر في النهاية يقتضي أنَّ أفكارنا ليست قبَّعات؛ أنَّنا لا نستطيع أن نخلع أفكارنا عند الباب. في دوائر اللذَّة والشبع والجوع، التخمة والمجاعة هناك دومًا ذراع من أفكارٍ محرِّكة. لطالما بدت مائدة الطعام – بالنسبة إليَّ – خلوة اعتراف، كمٌّ من الأسرار والآراء ومطمور الأفكار، تغدو اللقمة – لسبب ما – مفتاحًا مزدوجًا للفمِّ: يَطْعَم ويتكلَّم! أمسكُ صرَّة الورقيَّات من عقدة خصرها، أرجُّها كي تتفتَّح للفحص، وكي تنفث الرائحة طاقتها، تلك حركةٌ من أجلي، لكنَّ قلبي يُضمر أنَّ الورقات ستظنُّ لوهلةً أنَّها قد عادت إلى فضائها الحرِّ القديم، قبل أن تستيقظ من ظنِّها اللذيذ مخنوقة في كيس النايلون، لقد اخترتُها؛ هكذا تكون المثاليَّة عبئًا وسبيلًا إلى الفناء. أترك هذا القسم وخلفي ذلك المرج، أوراق وسيقان تتمالك خضرتها حتى نهاية اليوم. في المكان الذي أتبضَّع منه عادةً يُشرف قسم معلَّبات على ساحة الموادِّ الطازجة، هكذا يمكن أن أرى أكواز الذرة: تبزغ صفرتها الناعمة بخجل تحت قشورها الحارسة مقابل حبَّات بنات جنسها المعلَّبة الغارقة في ماء الحفظ، حبَّات شاحبة تطلُّ نصف محنَّطة في برزخ رطبٍ طويل الأجل. الأمر ذاته يحدث مع الفواكه المحفوظة في قسم آخر، كراتٌ وقطعٌ تشبه شيئًا من ماضيها مع كثافة مُسكَّرة رخوة، في هذه الحلاوة المريرة عليها أن تبقى سنوات، رفوف لا نهائيَّة من كلِّ ما خُنق وأُغرق وجُفِّف في توابيت زجاجيَّة شفافة. في قسم آخر ناءٍ ستكون نسخ الثمرات المجمَّدة ترنو إلى الوجود تحت كسوة من بلَّور هشٍّ، هشاشة تشدِّد عليَّ أن أهرع بها إلى البيت قبل أن تدمع حياتها الثانية قطرةً بعد قطرة. في مستعمرة الفواكه والخضراوات تقتضي فكرة التسويق أن تنام الثمار أحيانًا جوار أو أسفل السكاكين وأدوات البشر والفصل والتقشير والعصر، تلك الثمرات لا تعي أنَّها محاطة بمقاصلها، بالقسوة اللامعة في الشفرات المستعدة لإقصاء القشور، محو الاستدارة، وتفكيك وحدة العناقيد، مهارة هائلة تحشدها الصناعة في حربٍ ضدَّ هذه الطراوة العزلاء، أصوات الآلات رابئ، وأقدام المتسوِّقين وعجلات العربات تقود إلى هذا الافتراس. من فم المعصرة تخرج فيضانات دمائها، هناك أمواه ملوَّنة تتدفَّق من جسد الثمرة، تصعد روحها فقاقيع سرعان ما تنبجس، تعبر سائلة ومصفَّاة، مودِّعةً ما كانت عليه؛ ليبتلعها القالب، تترك خلفها قشورها وثفالها وبذورها: أشلاء ما بقِي من تلك الحياة القصيرة. أكان على كلِّ هذه الحلاوة أن تصعد إلينا في معراج من الألم؟ في رقعة من تدرَّجات الأحمر تتوالى صناديق بلاستيكيَّة صغيرة معبَّأة بالثمار الناعمة، كريَّات عائلة (التوتيَّات)، رفٌّ من حيواتٍ أهشَّ، يكفي أن يحلَّ الغروب حتى يزحل اللمعان، وفي الليل ستكون قد فقدت نصف عمرها، اليوم التالي ستكون قد مضت إلى موت محيِّر، مغادرةً هذا الكون الذي: “سرعانَ ما يفنى!”*! في مناسبات طارئة تكون رحلتي في الليل، رحلة الضرورة التي لا أحبُّها. الليل زمن غير وديع، أعرف منه أنَّ ثمراتي المنشودة قد انتهكتها عشرات الأيدي، مسَّتها عيون شَرِهة، في الليل تلك الساحة هي حقل من تنهدات الوداع: تينةٌ تدمع سكَّرها الثقيل، موزٌ تشرق فيه سمرة الزوال، ورقيَّات هبط منسوب بشاشتها إلى الحدِّ الأدنى، وعلى لمعة قشرة الطماطم الزجاجيَّة آثار قسوة عشرات الأصابع، حبَّات بطاطا وتفاح تغطيها كدمات التدحرج، بطيخة في فمها سؤال عن سرِّ كلِّ تلك الصفعات، أعرف ما يحصل لهذه الثمرات لأنِّي أفعله، في عرض مفتوح للانتخاب أمدُّ يدي إلى قلب الكومة؛ فتنهار. هناك سحرٌ في قطف الثمرة المختبئة البعيدة، في عدم قبول رشوة القرب الخادعة؛ وحدهم المتبضِّعون الأغرار تغريهم القطفة الدانية على الرفوف. تعلو أسماء المواطن ثمراتها فيطوِّف بالعقل شيء ممَّا يعدُّ أحكامًا: تحسينًا أو تقبيحًا، الثمار أيضًا تصيبها ضراوة المنافسة، تُقطف من الرفِّ بسبب المكان الذي عرِقت فيه جذورها، أو تُهمل بسبب من ذلك. حتى هي لا تنجو من السياق والأفكار المسبقة. منذ سنوات ازدهرت فكرة (المنتجات العضوية)، هذا الحصاد المدلَّل في أكياس بأحجام صغيرة، المفرَّغة له الرفوف الأعلى: توقير يغري المتبضِّع، تحريز ما هو ثمين بالحواجز الشفَّافة، وإحاطته بطاقة الندرة الجاذبة، مفاوضة الرغبة في الامتياز داخل الإنسان.. تلك الرغبة الجامحة! عند الميزان أضع الأكياس، يأخذ كلُّ كيس رقعةً تعرِّفه، اسم وأرقام كثيرة، هويَّة ستزول عمَّا قريب، تاريخ قصير في الوجود، لذَّة و(مُغْتَسلٌ) لعيني البصيرة. أمضي وأنا ألقي نظرة على تلك البرتقالة التي نسيت أن أقطفها، البرتقالة الناجية – مؤقَّتًا – تضحك الآن من (سُرَّتها)! * عمر أبو ريشة.