
لم أكن أبحث عن الفقد لكنه وجدني، حين كتبت في خانة البحث على منصة “تيك توك”: “كانت الرحلة حزينة للأسف”، متوقعة أن تكون النتائج محملة بمقاطع العشاق: أشواقهم، وعتابهم، وقصصهم، والصدف التي تجمعهم، وصوت البدر يردد في خلفيات هذه المقاطع القصيرة: “لا إنت وردة ولا قلبي مزهرية من خزف صدفة وحدة جمعتنا شوفي شلون الصدف التقينا في مدينة وفرقتنا ألف ميناء اغفري للريح والموج والسفينة كانت الرحلة حزينة للأسف” ظهرت النتائج، ووجدت الكثير من المقاطع على نحو مألوف، حمل الشطر فيها معناه الأول وصورته الأصل: وجه البدر، وعبادي يغني، وأمواج تتكسر، وسفن تبتعد، وخلفيات سوداء ممهورة بملامح عشاق يفترقون، لكن هذه المقاطع لم تلبث كثيرًا فسرعان ما تغيرت وظهرت مقاطع أخرى مكررة يتردد فيها نفس الشطر بصوت البدر، مصحوباً بموسيقى حزينة ومشاهد مختلفة: صور سونار مؤطرة وباهتة، وأيد ترتجف فوق بطون فارغة، وأجنة مفقودة، ومستشفيات باردة، ودعوات العوض والصبر الجميل، وفي هذه الصور والمقاطع، تكمن المفارقة، فلم تعد الرحلة سفرًا بين المدن، بل حملًا انكسر قبل أن يكتمل، وصارت السفينة رحمًا نازفًا، والموج يندب، ولا صوت للريح ولا أثر للموانئ، وكانت الرحلة حزينة للأسف، لكنها ليست رحلة عشق محكومة بقوانين الحب والخسارة، ومحمولة على أجنحة العتاب والمواجهة، بل رحلة فقد لروح لم تولد، ونشيد عزاء على جنين مات قبل أن يذوق طعم الحياة. هناك في فضاء “تيك توك” غادر الشطر ديوانه، وانتقل على هيئة صوت يتيم تبنته كل أم فقدت جنينها، هذا الانزياح الصادم من مقام الحب والعتب، إلى مقام الفقد والخسارة، يخبرنا كيف يمكن أن تموت المعاني في سياقها الأصل؛ لتولد من جديد، بواسطة جمهور يحملها جراحاته الخاصة، في منصة رقمية تقلب المفاهيم وتعيد بناءها مرة أخرى. وعلى المنوال ذاته، بيت آخر شائع في المنصة، وهو للبدر كذلك: “انتظرتك عمري كله، وإنت حلم، ومرت الأيام والله وإنت حلم”، خرج البيت في فضاء “تيك توك” أيضًا، من ديوان الحب إلى ألبومات الحياة اليومية للناس، فتردد في نتائج البحث على شكل “صوت” فوق صور ومقاطع لبشارات وأخبار سعيدة منتظرة: منزل العمر، أو مولود جديد، أو وظيفة، أو في مشاهد التخرج وحفلات الزفاف، لينتقل من مقامه ومفهومه، إلى حياة أخرى لا تشبه طفولته أبدًا. إن ما حدث للنصين هو هجرة سياقية واسعة من مرافئ العشاق إلى مراسم الرثاء، ومن همسات الغزل إلى بشارات الفرح، وهذه الظاهرة عرفتها، كثيرًا وبصور متعددة، البلاغة، والتداولية، ونظريات النقد الحديث، ثم دراسات ثقافة الجمهور الرقمي واستجابة القارئ، لكنها تتسع في الفضاءات المفتوحة مثل “تيك توك” وغيرها، وتتجاوز كل القوانين والحدود، وتنتج نفسها مئات المرات على شكل مقاطع صوتية ومرئية، ضمن ما يسمى: “تريند”؛ لتترسخ في العقل الجمعي بمفهومها الجديد، وتنتقل من خصوصية المعنى والتأويل، إلى عمومية التجربة والشعور. هذه القابلية لتحول النصوص ليست عشوائية، وبيتا البدر، ومثلهما كثير، يحتملان هذا التحول لسمات مميزة، فالكلمات قليلة وسهلة الاجتزاء والحفظ، وتكتفي بذاتها مثل ومضةٍ شعرية مكثفة وقالبٍ شعوري صالحٍ لكل زمان ومكان، ولأي موقف أو مخاطب، والاستعارة فيها مفتوحة ومرنة بما يكفي لأن تفسر بأكثر من صورة، وشعورها غامر ويحمل طابعًا عامًا ونبرة تتكيف وتتجدد، وتتأقلم وتتموضع، مع أي صورٍ أو نصوصٍ مرافقة، كما أن “تيك توك”، على وجه الخصوص، سوقٌ رقمي بلا جدران، وبلا حدود للحرية، ولا قوانين للملكية، تتجول فيه النصوص دون قائل، ويتبناها مستخدموه، الصغار على الأغلب، دون أن يعرف أكثرهم أين ولدت؟ ومن صاحبها؟ وماذا تعني؟ ثم إن ديناميكية التحول فيه تبدأ ببساطة وعفوية وتنفجر بسرعة مذهلة، إذ يكفي أن يطلق مستخدم ما شرارته الأولى: النص على شكل صوت قابل للحفظ السريع والاستخدام السهل، مصحوبًا بموسيقى مناسبة، وصور أو مقاطع لحدث مؤثر وتجربة عامة، ومونتاج محترف، تليه تعليقات مساندة وداعمة تصنع تأويلًا جماعيًا يشرعن المعنى الجديد، وخوارزميات تدفع المقطع إلى جمهور أوسع وتفاعل أكثر، ثم يكرر هذا الاستعمال ألاف المرات بنفس الصورة مع إضافات شخصية بسيطة، لينهار بعدها المعنى الأصل، وتسود القراءة الجديدة. مثل هذا وأكثر، يحدث في أغلب منصات التواصل الاجتماعي، حين تنتشر مقاطع صوتية فوق فيديوهات أو صور متباينة، وليس بين المقطع الصوتي والمشهد أو الصورة صلة مباشرة، لكن هذه النصوص الصوتية تكتسب معان جديدة بفعل الشيوع والتكرار والموقف المشترك، فتتراكب مع هذه المقاطع والصور، ويتلقاها الناس في إطارها الاجتماعي وليس الحرفي، وتصبح مثل إشارة ضمنية خلفها خبرة جماعية، تتجاوز حدود المعنى الحرفي، إلى معان استعارية كالسخرية والتهكم مثلاً، أو الغضب والتهجم، أو غيرها من المفاهيم. هذه الانتقالات السياقية المدهشة، قد تتقاطع، بشكل أو بآخر، مع ما طرحه (ميخائيل باختين) في أطروحاته حول اللغة والمعنى، إذ يفترض أن الكلمة لا تحمل المعنى في حد ذاتها، بل تحمل معناها في سياقها وعلاقتها بالكلمات السابقة واللاحقة، في حركة مستمرة تتحاور فيها الخطابات مع سياقات مختلفة وسط فضاء حواري متعدد الأصوات، يكون فيه وجود الكلمة وحياتها هو وجود كلمات الآخرين فيها، قبولًا أو رفضًا، وتقاطعًا أو تناقضًا، كما لو أن للكلمة علاقات اجتماعية مأهولة بمقاصد الآخرين، وحياة يومية تتكلم فيها مع البشر وتعكس تصوراتهم فيها، وكما يقول: “المتكلم لا يأخذ الكلمة من القاموس، بل من شفاه الآخرين، في سياقات الآخرين، وفي خدمة مقاصد الآخرين”، وهو ما حصل مع بيتي البدر، إذ انتقلت الكلمات إلى ملكية المتكلم القصدية، بفعل عوامل سياقية خضعت فيها إلى معنى جديد، وتوجه جديد، خارج تمامًا عن ذاتها الأولى. وإلى جانب (باختين)، يمكن أن نفسر هذه الظاهرة من منظور تواصلي، حين نستدعي نظرية الاستخدامات والإشباعات، التي تنص على أن الجمهور فاعل نشط يختار استهلاك الوسيلة الإعلامية بما يتفق مع حاجاته العاطفية والنفسية والاجتماعية، كما يعرف جيدًا أسباب رغبته في هذا الاستهلاك ودوافعه، وبالتالي فهو يستخدمها بوعي، ويختار ما يتوقع أن يشبع هذه الرغبات، بل يحق له أيضًا أن يفسر هذه الوسائط ويوظفها كما يشاء، وبناء على ذلك، نستطيع فهم انتقال بيتي البدر، وغيرهما، إلى معان أخرى؛ بغية إشباع حاجات تتصل بالتفاعل الإنساني، والبحث عن تضامن مجتمعي، وتعاطف رقمي واسع. ومن هنا، نتبين أن في منصات التواصل الاجتماعي نصوصًا كثيرة لم تعد ملكًا لصاحبها، وكلمات أكثر خرجت ولم تعد، لم تذهب إلى فراغ، بل عادت بأثواب جديدة، ولم تتبدل مواقعها فحسب، بل أصبحت علامة في ذاكرة جمعية، وأرشيف وجداني واسع يعبر بين الأجيال، وينغرس في تجارب متباينة لا تكتفي بمصير واحد، وعليه، فإننا ندرك أن الكلمة ذات المعنى الوحيد والتفسير الواحد، في هذا العصر الرقمي المتسارع، كلمة ميتة، لأن كل كلمة يجب أن تحمل في داخلها قدرة الانزياح ومعجزة التأويل، فتولد ألاف المرات بمعان مختلفة وهويات متعددة، وتتنقل في الفضاءات بوصفها حدثًا اجتماعيًا مفتوح الاحتمالات، وكائنًا قابلًا للتبني والتوظيف ومشحوناً بالمعاني، يعيش بقدر ما يُستعمل، ويرتحل في حركة دائبة، من الخاص إلى العام، ومن الفردي إلى الجماعي، عبر الإسقاط، والمشاركة، والتكرار، والتداول الرقمي، وتعدد المقامات، وإشباع الحاجات، وغيرها من الوسائل التي تدفع الكلمة إلى انتحال وجوه جديدة لا تخضع لسلطة أحد. هذا التحول العجيب في ملامح الكلمات والنصوص داخل العوالم الرقمية التفاعلية، وحتى بين الألسن، ومع ما يصحبه من اتساع خارطة المعاني، واحتمالات التأويل، وتبدل السياقات، وتبني أصوات مختلفة، يفتح سؤالًا في أذهاننا: هل ستواصل هذه الكلمات والنصوص هجرتها حتى تنكر تمامًا أصلها وتفقد موطنها الأم؟ أم أن لهذا الترحال منتهى وعودة؟