حين تصنع الكتب ملامح الإنسان.

ليست القراءة مجرّد مهارة أو وسيلة لاجتياز المعرفة، بل هي فعل وجوديّ يوازي معنى أن يكون الإنسان إنسانًا. فمن خلالها يتجاوز العقل حدوده الطبيعية، ويغدو قادرًا على أن يحاور الماضي ويتنبأ بالمستقبل، وأن يبني لنفسه هويةً تتشكّل من تفاعل النصوص والمعاني، لا من صدف الميلاد وحدها. وقد عبّر أحمد أمين عن هذا المعنى حين قال: “الكتاب هو الصديق الذي يتيح لك أن تنظر إلى الحياة بعيني غيرك، وتفكر بعقل غيرك، وتشعر بقلب غيرك.” إنها ليست أوراقًا وحروفًا، بل وسيلة لتوسيع حدود الذات لتصبح أرحب من حدود التجربة الشخصية. إن الهوية، في جوهرها، ليست حجرًا صلدًا يُختزن في الذاكرة الجماعية، بل هي كائن حيّ يتغيّر مع كل كتاب يُقرأ، ومع كل فكرة تُستوعَب، ومع كل ثقافة تُستقبَل أو تُرفض. ولذا فالقراءة ليست ترفًا يُضاف إلى اليوم، بل شرطًا أساسًا لفهم الذات وموقعها في العالم، ولتأسيس حوار بين الإنسان وموروثه من جهة، وبين الإنسان والآخر من جهة أخرى. وهنا يحضر عبد الوهاب المسيري ليؤكد: “الإنسان ليس كائنًا مغلقًا على نفسه، بل مشروع مفتوح يتجاوز ذاته باستمرار.” في زمن التحولات المتسارعة – حيث تفرض التقنية والرقمنة إيقاعها على تفاصيل الحياة – يتضاعف سؤال القراءة: هل ما زالت قادرة على صيانة العمق في عصر السرعة؟ هل تستطيع أن تمنح الإنسان جذورًا وهو يلهث وراء صور عابرة؟ إننا أمام تحدٍ ثقافي وفلسفي لا يخص النخبة وحدها، بل يعيد تعريف علاقتنا جميعًا بالمعرفة، وبالحرية، وبالمعنى ذاته. ولعل غازي القصيبي كان يستشرف هذا القلق حين كتب: “إن أخطر ما يواجه المثقف العربي أن يتحول من قارئ للكتاب إلى قارئ للشاشة، ومن باحث عن المعنى إلى مستهلك للسطح.” فالمسألة ليست أداة القراءة، بل روحها ومعناها. هذا المقال ليس محاولة لتكديس المفاهيم، ولا لتأريخ التجارب، بل هو سعيٌ إلى التفكير في القراءة بوصفها أداة لإنتاج الهوية، وحصنًا في وجه الاستلاب، وجسرًا بين الأصالة والمعاصرة. هو حوارٌ مع الذات أولًا، ومع النصوص ثانيًا، ومع أسئلة الوجود أخيرًا. وإذا كانت القراءة بهذا المعنى مشروعًا وجوديًا، فإنها أيضًا مقاومة صامتة ضد التفاهة. وقد قال علي الوردي: “الأمة التي لا تقرأ تموت قبل أن يأتيها الموت.” فالكتب هي التي تبقي على جذوة العقل متقدة، وتحمي المجتمع من الاستسلام للسطحية. القراءة ليست ترفًا فرديًا ولا عزلة نخبوية، بل هي فعل جماعي تتأسس به الحضارات. من بيت الحكمة في بغداد إلى مكتبة في قرطبة بالأندلس، إلى الجامعات الحديثة، كانت القراءة دومًا هي الخيط الذي يشدّ على نسيج الثقافة، ويمنحها القدرة على الاستمرار عبر العصور. وقد لخّص الجاحظ هذا الدور حين قال: “الكتب وعاءٌ ممتلئ علمًا، ليس في الأرض شيء أوعظ ولا آنس منها.” إن أخطر ما في عزوف المجتمعات عن القراءة ليس فقط ضياع المعرفة، بل ضياع الذاكرة. فكما يقول اليافعي: “من ضيّع كتابًا فقد ضيّع عمرًا.”، لأن الكتب ليست مجرد أوراق، بل مستودع للخبرة الإنسانية. وكل مجتمعٍ يقطع صلته بالكتب، يقطع صلته بماضيه ويترك نفسه نهبًا لفراغٍ لا يرحم. هنا يصبح السؤال الجوهري: كيف نعيد للقراءة مكانتها في عالمٍ يتغير كل لحظة؟ ربما يكون الجواب في إعادة صياغة علاقتنا بها لا كموروث ثقيل، بل كممارسة يومية تحرّر الإنسان وتوسّع أفقه. القراءة ليست واجبًا مدرسيًا، ولا وسيلة لتحصيل شهادة، بل هي طقس إنساني يوقظ الروح ويمنحها أسباب النهوض. وحين نفكر في المستقبل، ندرك أن القراءة ليست فقط أداة للمعرفة، بل وسيلة لتشكيل إنسان أكثر وعيًا بالحرية، بالكرامة، وبحقه في أن يكون صانعًا للمعنى لا مجرد متلقي له. كما أشار طه حسين: “اقرأ، فإن القراءة حياة العقل، والعقل هو حياة الإنسان.” فالإنسان الذي يقرأ، لا يعيش بعقل واحد، بل بعقولٍ متعددة؛ يقرأ التاريخ فيفهم الحاضر، ويقرأ الفلسفة فيتساءل عن الغاية، ويقرأ الأدب فيتذوّق جماليات الحياة. وخلاصة القول: القراءة ليست ترفًا ولا تكرارًا لطقس قديم، بل هي شرط أساسي لنهضة الفرد والأمة معًا. هي التي تحفظ وعينا من التبعثر، وتبني في داخلنا إنسانًا جديدًا في كل مرة نفتح فيها كتابًا.