
على مقربة من نيوم، مدينة المستقبل، وفي قلب الشمال الغربي للمملكة، استيقظ التاريخ على كشف علمي كبير. فقد أعلنت هيئة التراث، بالشراكة مع جامعة كانازاوا اليابانية ونيوم، عن اكتشاف أقدم مستوطنة معمارية معروفة في الجزيرة العربية، في موقع “مصيون” الذي يعود إلى العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار، أي قبل نحو 11 ألف سنة. يمثل هذا الاكتشاف منعطفا علميا في فهم بدايات الاستقرار البشري في شمال الجزيرة، حيث عُثر على وحدات معمارية شبه دائرية، وأدوات حجرية وزخارف رمزية، وبقايا بشرية نادرة تكشف تفاصيل الحياة اليومية وطقوس الإنسان الأول. ويُبرز هذا الكشف الدور الحضاري لمنطقة تبوك التي تحتضن ثلث آثار الجزيرة، ويؤكد امتداد “الهلال الخصيب” إلى شمال المملكة، بوصفها موطنًا مبكرًا لتحولات الإنسان من الصيد والترحال إلى الزراعة والاستقرار. ويعد “مصيون” — وفق ما أوضح فريق البحث السعودي–الياباني — أقدم نموذج معروف للاستيطان البشري المعماري في الجزيرة، وموقعًا يُعيد رسم خريطة فجر التاريخ الإنساني، مؤكدًا أن أرض المملكة كانت مهدًا مبكرًا للحضارات وفضاءً لتكوّن الإنسان الأول واستقراره. تزخر منطقة تبوك بالعديد من المواقع الأثرية التي يرجع تاريخها إلى آلاف السنين، وقد أكد العديد من المؤرخين والباحثين أن ثلث آثار الجزيرة العربية موجودة في منطقة تبوك، موطن العديد من الحضارات التاريخية القديمة. يعد موقع مصيون في وادي ضم شمال غربي مدينة تبوك من أكبر هذه المواقع، ويضم الكثير من الأدوات الحجرية، كالمكاشط، والسكاكين، والمناقيش، ولوحات رسوم صخرية، تمثل مجموعة من الحيوانات كالوعول والكلاب. وفي 25 سبتمبر الماضي، أعلن صاحب السمو الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان وزير الثقافة رئيس مجلس إدارة هيئة التراث، عن اكتشاف أقدم مستوطنة معمارية في الجزيرة العربية، وذلك ضمن أعمال التنقيب الأثري التي تنفذها الهيئة بالشراكة مع جامعة «كانازاوا» اليابانية، وبالتعاون مع نيوم في موقع «مصيون» شمال غرب مدينة تبوك. ويعود تاريخ المستوطنة إلى العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار، وتحديدًا إلى الفترة بين 11000 و10300 سنة من الوقت الحاضر. وأدرج موقع «مصيون» ضمن سجل الآثار الوطني منذ عام 1978م، إلا أن الدراسات الميدانية الحديثة، التي انطلقت في ديسمبر 2022م، أعادت الكشف عن أهميته التاريخية بوصفه أقدم نموذج معروف للاستقرار البشري في الجزيرة العربية. أربعة مواسم ميدانية مكثفة نفّذت هيئة التراث عبر فريقها العلمي المشترك مع الجامعة اليابانية أربعة مواسم ميدانية مكثفة حتى مايو 2024م، شملت أعمال تنقيب منظمة باستخدام منهجية علمية دقيقة، تضمنت توثيق الطبقات الأثرية، وفرز وتصنيف المعثورات، وتحليل العينات العضوية لتحديد العمر الزمني بشكل مطلق. وأسفرت أعمال التنقيب عن اكتشاف وحدات معمارية شبه دائرية، مشيدة بأحجار جرانيتية محلية تضم مبانٍ سكنية، ومخازن، وممرات، ومواقد نار عكست تخطيطًا وظيفيًا متقدمًا يتناسب مع طبيعة العيش القائم على الصيد وزراعة الحبوب في تلك الفترة، وعثر على مجموعة كبيرة من الأدوات الحجرية تشمل رؤوس سهام، وسكاكين، ومطاحن يرجّح أنها استخدمت في درس الحبوب، إلى جانب أدوات زينة مصنوعة من أحجار الأمازونيت، والكوارترز، والأصداف، ومواد خام تدل على نشاط إنتاجي داخل المستوطنة. وشملت المعثورات أيضًا بقايا نادرة لهياكل بشرية وحيوانية، وقطع حجرية مزخرفة بخطوط هندسية، ما يشير إلى دلالات رمزية، ويمنح الباحثين بعدًا أعمق لفهم نمط الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في المنطقة خلال العصر الحجري الحديث المبكر. وأكّدت هيئة التراث أن هذا الاكتشاف يمثل منعطفًا علميًا مهمًا في فهم بدايات الاستيطان البشري المستقر في شمال غرب المملكة، ويعزز فرضية أنها منطقة شكلت امتدادًا طبيعيًا لـ «لهلال الخصيب» (بلاد الرافدين، وبلاد الشام، وجنوب الأناضول)، وموطنًا مبكرًا لتحولات الإنسان من الترحال إلى الاستقرار. ويأتي هذا الإنجاز في سياق الجهود المتواصلة التي تبذلها هيئة التراث لتوثيق المواقع الأثرية في المملكة، وتوسيع نطاق التعاون مع الجامعات والمراكز البحثية الدولية المتخصصة في علم الآثار، تحقيقًا لمستهدفات رؤية المملكة 2030، وتعزيزًا لمكانة المملكة بوصفها منبرًا معرفيًا في مجال التراث الإنساني العالمي. عمل متواصل لـ 13 موسمًا كشف مدير إدارة الآثار في الهيئة، الدكتور عجب العتيبي، في المؤتمر الصحفي عن محددات تاريخية في عملية البحث والتنقيب، أبرزها الهياكل العظمية البشرية الثلاثة، ونتائج التأريخ بالكربون المشعّ لمواقد الموقع، إضافة إلى رماح وسهام حجرية مميّزة للمرحلة المبكرة من العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار. وبيَّن الدكتور عجب العتيبي أنّ «مصيون» تضمّ أقدم استيطان بشري معماري موثَّق في الجزيرة العربية والعالم، وأنّ العمل المتواصل على مدى 13 موسمًا بمشاركة باحثين من السعودية واليابان أفضى إلى نتائج شديدة الأهمية. وأوضح أن المستوطنة تمتدّ على 11 ألف متر مربع، بينما شملت التنقيبات الأخيرة ألفي متر مربع فقط، ما يستدعي مزيدًا من العمل للكشف عن تفاصيل إضافية. وأضاف أن الموقع ضمّ أساسات مبانٍ تعود إلى العصر الحجري المبكر ما قبل الفخار، ولقى أثرية متنوّعة عكست أنشطة سكنية وزراعية وصيدًا بريًا وأدوات إنتاجية وزينة، فضلًا عن آثار طقوس جنائزية وعشائرية. وتكمن أهمية الحدث في أنه يكشف بدايات استقرار الإنسان في المنطقة ويُعزّز حضور السعودية على خريطة الاكتشافات الأثرية عبر أقدم مستوطنة معمارية معروفة في الجزيرة العربية، مؤكدًا قيمتها التاريخية وصلتها الثقافية بـ «الهلال الخصيب». من جهته، أوضح رئيس الفريق الياباني، الدكتور سوميو فوجي، أنّ موقع «مصيون» هو الأقدم حتى الآن في الجزيرة العربية، إذ يعود إلى المرحلة الأولية من العصر الحجري الحديث، لافتًا إلى أنه لا توجد مستوطنات مماثلة حتى في المواقع الشهيرة مثل الثمامة والدوسرية، ما يجعله متفرّدًا وقابلًا للمقارنة فقط بالمستوطنات المبكرة في المحيط الأوسع. وتابع رئيس الفريق الياباني أنّ أهمية اكتشاف «مصيون» تكمن في إعادة رسم خريطة بدايات الاستيطان المستقر، إذ يكشف عن امتداد «الهلال الخصيب» إلى الجزيرة العربية، ويبرز دور المنطقة بوصفها قاعدة ممهِّدة لظهور الحضارات القديمة. ثقافات مترابطة أما الباحث والمتخصّص في الآثار، الدكتور عبد الله الزهراني، فقال إنّ موقع «مصيون» هو أقدم مستوطنة معمارية موثقة في الجزيرة العربية، يعود إلى العصر الحجري الحديث قبل 11 ألف سنة، وقد أسَّس لثقافة مترابطة استمرَّت قرونًا طويلة. وأكد أنّ اكتشافات الفريق السعودي - الياباني قدَّمت معلومات دقيقة عن تحوّل الإنسان في «مصيون» من الترحال إلى الاستقرار، حيث بدأ بناء البيوت وتربية الماشية وممارسة الزراعة، كما عُثر على مطاحن حبوب وأدوات صيد وحلي وزينة من الحجر والخرز والأصداف. وأشار الزهراني إلى أنّ إنسان «مصيون» تجاوز حدود الاستقرار ليمارس شعائر وطقوسًا يومية، ويتّضح ذلك من وجود مدافن تضم هياكل بشرية، ربما للاحتفاظ ببقية من الأسلاف أو لاستخدامها في طقوس تلك المرحلة. وبيّن أن تحوّلات «مصيون» من التنقّل إلى الاستقرار، ومن البساطة إلى العمق، ارتبطت بتأثير متبادل مع بلاد الأناضول والرافدين و«الهلال الخصيب»، مما أرسى ثقافة مترابطة استمرَّت قرونًا في العصر الحجري الحديث. مقتطفات من الدراسة تنفرد (اليمامة) بنشر مقتطفات من الدراسة التي نشرت في المجلة الآسيوية لعلم الأمراض القديمة (Asian Journal of Paleopathology). حملت الدراسة عنوان «طقوس جنائزية في مستوطنة تعود إلى العصر الحجري الحديث ما قبل الفخاري (ب) في مصيون (شمال غرب المملكة العربية السعودية)»، وشارك بها الدكتور عبدالمحسن المنيف من هيئة التراث، بالإضافة إلى الدكتور سوميو فوجي، والدكتور اكينوري يوسوجي، والدكتور شوغو كومي، من معهد دراسة الحضارات القديمة والموارد الثقافية بجامعة كانازاوا اليابانية، والدكتور كينجي أوكازاكي من قسم التشريح بكلية الطب في جامعة توتوري اليابانية، والدكتور ماساشي آبي، من معهد طوكيو الوطني لأبحاث الممتلكات الثقافية. معلومات مهمة عن الظروف الاجتماعية للمنطقة حددت الدراسة موقع البحث حيث جاء فيها: «قام مشروع بحثي سعودي ياباني مشترك (أي مشروع آثار الجوف/تبوك) بالتنقيب في موقع صغير من مواقع المصيون في شمال غرب المملكة العربية السعودية لعدة مواسم من عام 2022 إلى عام 2024. يحتوي الموقع، الذي سُجِّل لاحقًا كأقدم مستوطنة من العصر الحجري الحديث في شبه الجزيرة العربية بأكملها، على ثلاث بقايا هياكل عظمية بشرية. تهدف الدراسة الحالية إلى توضيح ممارسات الدفن استنادًا إلى التحليلات التشريحية وتحليل الجثث، وبالتالي توفير معلومات مهمة عن الظروف الاجتماعية في الزاوية الجنوبية الغربية من الهلال الخصيب الممتد خلال المرحلة الانتقالية من الصيد والجمع إلى الزراعة الأولية (شبه) المستقرة. وأوضحت الدراسة الارتباط الوثيق بين الثقافات في المنطقة حيث ذكرت: «هذا النوع من المجمعات الهيكلية شائع في مستوطنات العصر الحجري الحديث الصحراوية في جنوب بلاد الشام، مما يشير إلى أن العصر الحجري الحديث في شمال الحجاز ربما بدأ بعد الاتصال بمستوطنات بلاد الشام أو الهجرة منها. وقد تم إثبات عادة إغلاق المدخل المؤقت في ثلاثة مواقع، وربما كان الهدف من هذه العادة الفريدة حماية كل وحدة من العواصف الرملية وغزو الحيوانات البرية عندما يغيب السكان لفترات طويلة. يبدو هذا التفسير معقولاً لأن المستوطنة تقع على مرتفعات على ارتفاع حوالي 1400 متر. ومن المرجح أن القرويين كانوا يهاجرون بين المرتفعات صيفًا والمنخفضات (مثل ساحل البحر الأحمر) شتاءً». وأبرزت الدراسة أهمية المعثورات واللقى التي تم اكتشافها حيث قالت: «توضح اللقى الصغيرة وتحديدًا خرزات الزينة الشخصية، الحياة اليومية لسكان المجمع. وتشمل اللقى مجموعة حجرية متكسرة تتمحور حول رؤوس مقذوفات من نوع حلوان، ومجموعة حجرية مطحونة تتكون بشكل رئيسي من مطاحن أحواض وألواح طحن، بالإضافة إلى كمية كبيرة من الأصداف/القواقع/الأمازونيت كمواد خام للخرز. كما عُثر على أوانٍ حجرية ولوحات حجرية صغيرة ذات نقوش هندسية بأعداد قليلة. من المهم اكتشاف مجموعة من بقايا الهياكل العظمية البشرية، بما في ذلك ثلاث جماجم. دُفنت هذه البقايا في قبر بسيط للغاية، محاط بألواح حجرية ومُغطى بالتراب في حفرة أرضية ضحلة. ورغم أنه لا يزال من غير المؤكد ما إذا كانت تُمثل طقوسًا جنائزية، فقد عُثر في الحفرة على بعض الأدوات الحجرية والأصداف وعظام الحيوانات». التأريخ بالكربون المشع تحدثت الدراسة عن أحد أهم المحددات التاريخية التي تم اعتمادها وهي التأريخ بالكربون المشعّ لمواقد الموقع، حيث جاء فيها: «نظرًا لفقدان معظم الكولاجين في العظام البشرية خلال عملية ما بعد الترسيب، استُخدمت قطعتا المادة المتفحمة المستخرجتان من موقد لتأريخ الكربون. لم يحتوِ موقع مصيون على أي بقايا تقريبًا من أي فترات أخرى غير فترة العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار (PPNB)، مما يشير إلى استخدام الموقع لهذه الفترة فقط. عُثر على العديد من الأدوات الحجرية النموذجية لفترة العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار المبكرة حول بقايا الهياكل العظمية البشرية، على الرغم من أنه من غير الواضح ما إذا كانت تُعتبر من مقتنيات الجنائز. لذلك، يُعتقد مبدئيًا أن الهياكل العظمية الثلاثة تعود لأفراد دُفنوا خلال فترة العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار المبكرة (حوالي 8600-8200 قبل الميلاد). ملخص الدراسة خلصت الدراسة إلى ما يلي: «تُعرف منطقة غرب آسيا بأنها مهد ممارسة جنائزية فريدة تتضمن دفنًا ثانويًا، مثل دفن الجمجمة. ووفقًا لدراسات سابقة، اقتصرت ممارسة الجنازة هذه جغرافيًا على «الهلال الخصيب». تُفيد دراسة الحالة هذه بممارسات الجنازة التي اتُبعت لثلاثة بقايا هياكل عظمية بشرية من مستوطنة مصيون في شمال الحجاز، والتي تعود إلى العصر الحجري الحديث ما قبل الفخاري المبكر (ب)، خارج الحافة الجنوبية الغربية للهلال الخصيب التقليدي. تشير نتائج التحليلات التشريحية وتحليل الجثث إلى أن البقايا البشرية الثلاثة دُفنت على فترات متباعدة إما في وضع القرفصاء أو في وضعية استلقاء جانبي منحني. وقد دُفنت بالقرب من بعضها البعض بالقرب من أرضية منزل مهجور وغُطيت بالحجر الأردوازي والتربة، مما يشير إلى أنها كانت عملية الدفن الأساسية؛ وربما كان من المقرر إقامة جنازة ثانوية ولكنها لم تُنفذ أبدًا، ومن ثم، فقد خضعت لعملية نزع لحمها في القبر المؤقت. تشير المظاهر المورفولوجية للجمجمة والتقييم المورفومتري لعظام الجمجمة وما بعدها إلى أنها جميعًا لذكور بالغين، وهو ما يتوافق مع حقيقة أن عظام الجمجمة عادةً ما تُركز على الذكور. لا تُوسّع نتائج الدراسة النطاق الإقليمي لممارسات الجنازة في العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار ب فحسب، بل تُقدم أيضًا رؤى مهمة حول الخلفية الاجتماعية للانتقال من الصيد وجمع الثمار إلى الزراعة شبه المستقرة في شمال الحجاز».