صحفي وباحث وناشر رائد في المشهد الثقافي المحلي..
محمد السيف: التاريخ ليس كتاباً مقدساً.. وأريد ذكراً صادقاً بعد الرحيل !

يمثل محمد بن عبد الله السيف نموذجًا بارزًا للمثقف المنتج. فهو رئيس تحرير، وكاتب سير، ومؤرخ، وإداري، وناشر. بدأ مسيرته الصحافية متدرجًا حتى شغل منصب رئيس تحرير، لكنه لم يقتصر على العمل الصحافي، بل توسع ليشمل البحث والتأليف والتوثيق والنشر، مع تركيز واضح على كتابة السير والمراجعات التاريخية التي تعكس تاريخ المشهد السعودي الحديث. ساهم السيف عبر مؤلفاته المتنوعة وإصداراته في توثيق الشخصيات والمراحل الثقافية والفكرية في المملكة، مقدمًا محتوى يجمع بين البحث الجاد والمنهجية الدقيقة، كما أسس دار جداول، التي أصبحت أحد أبرز دور النشر السعودية والعربية، ملتزمة بالنشر المسؤول والمعايير البحثية العالية. يعد السيف أيضًا رئيس تحرير المجلة العربية، ومرجعًا في إدارة المشاريع الثقافية، بما في ذلك تطوير محتوى النشر والتوثيق التاريخي عبر منهجية استقصائية دقيقة، ما يعكس دوره في بناء سردية وطنية تاريخية ودعم الصحافة الثقافية والبحث العلمي في المملكة. يقدم هذا الملف حوارًا خاصًا مع الأستاذ محمد السيف، إلى جانب شهادات من متابعين وزملاء يبرزون أثره في المشهد الثقافي، ويعرض جوانب مسيرته الصحافية والبحثية والنشرية بشكل مهني وموضوعي. لا يشبه محمد السيف غيره من الكتّاب الذين عبروا دروب الصحافة والثقافة، فهو القادم من بيئة بسيطة في الزلفي، والذي حمل منذ بداياته مكتبة والده كجواز عبور إلى عوالم الكتابة والتأريخ. في هذا الحوار، لا يفتح السيف أبواب ذاكرته كلها، بل يترك لنا ممرات ضوء ودهشة، تكفي لأن نشعر أننا أمام سيرة حيّة، تكتبها التجارب بقدر ما يكتبها صاحبها. ما بين الانضباط الشخصي، وشغف التوثيق، والقدرة على الغوص في تفاصيل الآخرين دون أن يغرق في هوامش نفسه، يتشكل نصّ طويل عن المعرفة، والوفاء للثقافة، والبحث الدائم عن أثر باق.. هنا نص الحوار: مكتبة منزلية • من الزلفي إلى رئاسة تحرير المجلة العربية. ماذا عن البدايات وأبرز التحولات؟ في الزلفي نشأتُ كغيري من أفراد جيلي ضمن مجتمع متجانس في مجمله، قوامه الحياة البسيطة والهادئة. وقد نشأتُ في بيت عماده الحزم والانضباط. كان والدي مديرًا لإحدى المدارس، ولديه مكتبة منزلية، كانت هي الأساس في التأسيس الثقافي والقراءة والاطلاع. قرأتُ فيها بعض الكتب الأدبية وبعض دواوين الشعر العربي، الفصيح والنبطي. وكانت تصلنا مجلات ثقافية بشكل منتظم، مثل: اليمامة، والعربي، ومجلة الحرس الوطني. والغريب أن «المجلة العربية» لم تكن ضمن تلك المجلات، لذلك تعرفتُ عليها في وقت متأخر من المرحلة الثانوية. من أبرز التحولات في مسيرتي الصحافية هو عملي في «الشركة السعودية للأبحاث والإعلام» (srmg)، وهي كما تعلم واحدة من كبرى المؤسسات الصحافية في العالم العربي، وقد انضممتُ إليها مُعارًا ثم متفرغًا لأعمل في مجالين: الأول إداري ليس هنا مجال تفصيله. والثاني: صحافي ثقافي، ابتدأتُه مُحررًا ثقافيًا في صحيفة «الشرق الأوسط» في مكتبها بالرياض، ثم عملتُ رئيسًا للقسم الثقافي في جريدة «الاقتصادية»، وقد عملنا على إصدار مُلحق ثقافي أسبوعي، يصدر كل ثلاثاء، استمر عدة سنوات. كما كنتُ أقوم بعمل بروفايلات صحافية عن عددٍ من الشخصيات الإدارية والاقتصادية والثقافية، فضلًا عن كتابة مقالة أسبوعية في الصفحة قبل الأخيرة. وأُدين بكثير من الشكر والامتنان لتلك السنوات الجميلات التي قضيتها في الشركة، كما أجدها فرصةً لشكر عدد من الذين وقفوا معي وساندوني من الأصدقاء والزملاء، داخل الشركة وخارجها، ولعلي أذكرهم بالأسماء، وبشيء من التفصيل في موضع آخر. كما لا أنسى محطة «إيلاف»، التي عملتُ فيها محررًا صحافيًا من يومها الأول. وقد نشرتُ فيها العديد من الأعمال الصحافية، أبرزها السلسلة المطوَّلة التي كتبتُها عن عبدالله الطريقي، وهي التي كانت أساسًا لكتابي: «عبدالله الطريقي صخور النفط ورمال السياسة»، وكذلك السلسلة المطوَّلة الأخرى عن عبدالله القصيمي، والتي أتمنى أن تتطوَّر هي الأخرى إلى كتاب في المستقبل القريب. أيضًا هناك محطة «دار جداول» والحديث عنها يطول. المعرفة الواقعية • كثير من مشاريعك تنطلق من السير الذاتية والتأريخ للشخصيات. ما الذي يجذبك لهذا اللون من الكتابة تحديدًا؟ كل أشكال المعرفة جديرة بالاطلاع، ولكل ذائقة اهتمام خاص تسعى نحو إشباعه، لهذا وجدتني كما تفضَّلت مُهتمًا بعوالم السير والترجمة للشخصيات قارئاً أولًا ثم كاتبًا. لقد بدأتُ في منتصف التسعينات القراءة المكثفة لما يُنشر ويترجم من سيَر لشخصيات غربية، وعربية، قادة وساسة ومفكرين. ولا أخفيك أنَّ كتابين قد حفَّزاني للبدء في الكتابة والتأليف، وهما كتاب «كمال جنبلاط الرجل والأسطورة»، للكاتب الروسي إيغور تيموفييف، وكتاب « بورقيبة سيرة شبه محرَّمة» للكاتب التونسي الصافي سعيد. وفي تقديري أن مثل هذا النوع من المعرفة يُحقق جملة من الإفادات، منها الوقوف على خلفيات تلك الشخصيات، ومعرفة ظروف تكوينها ونشأتها، والمناخ الثقافي والسياسي والاجتماعي المصاحب لها، والإفادة من حصيلة ما تشكَّل عبرها، وذلك ضمن إطار من المعرفة الواقعية لا التخيُلية. أهميّة السيرة • حين تكتب عن الشخصيات، هل تراها مرايا لزمنها أم تحاول إنصافها؟ في نظري فإن كل حياة هي قابلة لأن تكون سيرة ذاتية، يكتبها الشخص نفسه أم يدوّنها غيره عنه، لكن تتنامى أهمية السيرة كلما كان ارتباطها بالشأن العام أكثر قُربًا، أيَّاً كان هذا الاقتراب، إما بشهرة في المجتمع، أو مسؤولية رسمية، أو أثر فعلي أسهم في تحقيقه. وفيما أتناوله من شخصيات أذهب نحو تقديم الأثر، وتتبُّع المسير، واستقصاء التفاصيل بعناية، وإن كان ثمة إرهاق، لكنه يُحقق لي أعلى درجات المتعة والانتشاء. والحق أنني أنطلق من الدافعين معًا؛ كونها مرايا لزمنها، وأيضًا لإنصافها، وتقدير دورها، والتذكير به لأجيال قادمة. الجرأة الأدبية • هل ترى أن التاريخ يمكن أن يُكتب بالإنصاف الكامل، وكيف توازن بين الإعجاب بالشخصية وبين التزامك بالموضوعية؟ التاريخ ليس كتابًا مقدسًا، ففيه يحصل الخطأ والتقصير، وربما الهوى وغايات النفس. أحاول جاهدًا حينما أكتب التنقيب أولًا عن الوثائق والمصادر، وأسعى مخلصًا لتحرّي الحقيقة، ولعلي امتلكتُ فيما كتبتُ «الجرأةَ الأدبية» على طرح تلك الحقيقة، مُستحضرًا دائمًا النزاهة عن كل تعصُّب. وهذه زوايا يعرفها القارئ، ولديه القدرة على تقييم مستوى هذا المنتج عن ذاك. أما ما يتعلق بالإعجاب بالشخصية، فبكل تأكيد لن أكتب عن شخصية، ما لم أجدها حقيقة وجديرة بالكتابة، كونها قدَّمت ما يستحق الكتابة والتدوين والإنصاف. التحولات الثقافية في السعودية • هل هناك شخصية حلمتَ أن تكتب عنها لكنك تراجعت، ربما لثقلها أو لخشيتك من صراع مع الواقع؟ كل فكرة قابلة للكتابة. والسؤال يظلُ حول أسلوب ما تريد أن تكتبه. هذه القاعدة تتيح لكل فكرة أن ترى النور، لهذا لا أتهيَّب الكتابة عن أي شخصية. وبكل تأكيد هناك شخصيات كثيرة أتمنى أن أنجز الكتابة عنها قريبًا، لكن انشغالات الحياة وارتباطاتها قد تؤخر بعضًا منها. • قلتَ إنك تؤمن برسالة في الحياة وإلا (لتحطمت منذ زمن بعيد). هل هذه الرسالة دفاع عن الأفراد أم عن الفكرة الأكبر: الوطن والثقافة؟ من لا قضية له لا أثر له، وقضيتي التي تلخص حياتي وأحلامي هي المعرفة؛ قراءةً وتأليفًا وتشجيعًا وإسهامًا عبر كل المحطات الشخصية والرسمية. ولعل دار جداول تعبِّر عن قضيتي الأولى، وعبر هذه القضية أمضي لخدمة ثقافة وطني ورجالاته ومراحله. • كيف تقرأ التحولات الثقافية في السعودية اليوم؟ رؤية 2030 التي باركها مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وهندس مفاصلَها بقيادة فذة وحكيمة، سمو سيدي ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان - حفظهما الله – تعبِّر في مجملها عن تحوَّل ثقافي كبير، يشمل الثقافة المجتمعية، وثقافة الأداء المؤسسي بصورة عامة، لهذا نحن أمام تحوَّل مفصلي طال المكوِّن الثقافي، شكلًا ومضمونًا، وأسهم في خلق نموذج جديد، قوامه روح العصر التي تنتظم الأجيال الجديدة في فلكه. العزلة سعادة ومتعة • حين تنقّب في حياة الآخرين وتكتب تفاصيلهم، كيف تنجو من أن تتحوَّل حياتك أنت إلى «ظل» أو «هوامش» مقارنة بسِيَرهم؟ هل سيعلق في يقيني من سيَر تلك الشخصيات التي كتبتُ عنها شيئاً؟ نعم. ولكم عشتُ في وجداني مع موقف أو حادثة عصيَّة على التجاوز. على الجانب السلوكي سير وتجارب الآخرين هي دروس مجانية لنا، نستفيد منها ونتعلم من آثارها. تبقى فكرة الهامش والمتن التي وردت في سؤالك، والحق أنها فكرة لا أُعيرها اهتمامًا، فلكل شخصية هويتها الخاصة التي تكتسب عبرها قيمها ومكانتها. • هل ترى نفسك في يوم من الأيام مشروع «سيرة مكتوبة»؟ وإن كان نعم، من الكاتب الذي تأتمنه على حياتك؟ هذا السؤال يوجه إلى غيري، فالآخرون هم من يقيّمون تجارب الآخرين. ولو علمت من هو هذا الذي سيرى في تجربتي ما يستحق الكتابة لأخبرتك على الفور. • كيف تنجح في الموائمة بين التزاماتك المهنية في الكتابة والتاريخ، وبين حياتك الخاصة وإنسانيتك اليومية؟ في موضوع الموائمة الموازنة بين المسؤوليات العملية والاجتماعية وبين الإنتاج الكتابي، أعودُ إلى مقولة خالدة في يقيني منذ سنوات، للدكتور غازي القصيبي، رحمه الله، حينما قرأتُ له ما معناه، أنه حينما تستسلم للواجبات الاجتماعية ولجلسات الأصدقاء و«الشلة» و«الاستراحة»، سوى في حدوها الدنيا، فلن تتمكَّن من إنجاز معرفي معتبر. هذه المقولة صدقًا لا أتذكر أين ومتى قرأتها، لكنها أصبحت نبراسًا جعلني ألوذ بعزلة، اخترتها لنفسي وقد منَحتني سعادة ومتعة لم أجدها في غيرها. الاختيار للقارئ • يعتب عليك البعض بأنك نادرًا ما تحضر في المناسبات والفعاليات الثقافية والأدبية، فما مرد ذلك؟ هذا صحيح، وحق لهم أن يعتبوا. أُعيد هذا التقصير إلى انشغالي العملي وما يتصل به من قراءة وتأليف ونحوهما، وأستثني من هذا تلك الفعاليات التي تتقاطع مع اهتماماتي، إذ أحرص على حضور ما تيسر منها. وحينما كنتُ عضوًا في مجلس الهيئة العامة للثقافة سابقًا ثم عضوًا في مجلس هيئة الأدب والنشر والترجمة في الفترة الأولى لم أحضر أيَّ فعالية أقامتها هاتان الهيئتان، رغم ميزات ما كان يُعرض حينها، وكذلك الحال حينما كنت المشرف العام على مركز الملك فهد الثقافي، إذ لم أكن أحضر من فعالياته إلا ما ندر، ليقيني بأنها أُعدّت لجمهور لستُ منه. وأذكر أن الأستاذ سعد الدوسري كتب مقالاً بزاويته في صحيفة الجزيرة تحت عنوان (هل نحن في الرياض؟) أشاد فيه بالفعاليات مشيرًا إلى أنه لم يكن يرى محمد السيف في الفعاليات التي حضرها، في الصف الأول، إنما في الصف الأخير ضمن فريق العمل المنظِّم. • ماذا تريد أن يبقى من محمد السيف بعد رحيله: كتبه، أم أثره في الذاكرة الثقافية، أم شيء آخر أعمق؟ أريد أن يبقى محمد السيف كما هو، دون عمليات تجميل أو تشويه، أقول هذا لأنني حاولتُ أن أعيش الصدق في حياتي، لهذا أريد ذكرًا صادقًا بعد الرحيل. هذا الصدق يشمل مسيرة الصحافة والكتابة والإدارة والنشر والتأليف، أما حياتي الشخصية فيجوز لذويها ما لا يجوز لغيرهم. • إن كان لديك وصية فكرية للأجيال القادمة من الباحثين والكتاب. ماذا تقول؟ بيني وبين الوصايا عداء قديم، أظن أن أصله يعود إلى ما كنا نعيشه أثناء مرحلة الصحوة، التي كانت تمطرنا بالوصايا صباح مساء، لقد ألغيتُ الوصايا من حياتي، خاصةً في مجال الثقافة والقراءة. وإن أردت أن أوصيك صديقي علي، فوصيتي هي ألا توصي أحدًا. دع القارئ يختار ما يشبع حاجاته الثقافية والفكرية دون وصية ولا وصاية. • كلمة أخيرة لمن توجهها؟ إلى مجلة «اليمامة»، العريقة والممتدة فكرًا وثقافة وأدبًا على مدى 73 عامًا، من حمد الجاسر إلى عبدالله الصيخان، ومع الشكر الوافر لكل الجهود التي بُذلت ولا تزال في خدمة الثقافة، فإني آمل استمرارها والمحافظة على تاريخها ووهجها وألقها. ولك أنت، صديقي علي، شكري على كرمك، وبأمل أن نلتقي قريبًا على ضفاف النيل.