الصحافة الجادة بوصلة طريق.

وكأنه من آخر فرسان جيل تبنى خيار الصحافة كنافذة لصناعة العالم وليس رؤيته فقط، انخرط الصحافي والباحث والناشر محمد السيف في عالم الكلمات التي تستهدف استجلاء المغيب وكشف المستور وتوضيح الملتبس وإضاءة المعتم. فبدأ مسيرته صحافيا وكأنه يقول سيرتي تبدأ من هنا ولكنه لم يتوقف عند هذا المجال الذي وصل إلى قمته حين أصبح رئيسًا للتحرير بل عزز هذه العلاقة إلى علاقة أبعد أفقًا حين دلف عالم التأليف من باب توثيق السير الثقيلة التي بدأت مع سيرة الوزير الأكثر إشكالية عبد الله الطريقي ولم تكن هذه الخطوة الكبيرة إلى محطة أولى في طريق طويل من الإصدارات الفارقة في هذا المجال، وبينما هو يعزز مكانته في هذا السياق الصحافي/ التوثيقي/ الاستقصائي أسس مع الراحل الكبير د. يوسف الصمعان دار جداول وما أدراك ما دار جداول في سوق النشر السعودي والعربي. هذه الخطوط العريضة لرحلة السيف في المشهد الثقافي تبرز بما لا يدع مجالًا للشك والالتباس بأنه لم يمتهن الصحافة الثقافية مهنة عيش بل أسلوب حياة، فلم يكن يشارك في أصداء الزلازل بل يصنع الصوت الأول للدوي الأكثر تأثيرًا. وحتى لا يبدو الحديث من باب التكريم المتأخر الذي يزدحم بمفرادت المدح التي صارت تكال لمن يستحقها ولا يستحقها سأعترف بأن هذه الكتابات تعجبني وتثير حماستي لأن فيها شيء قريب من ذائقتي الصحافية والكتابية ولو من بعيد فأسلوب الانتقاء والاستقصاء ونوعية الشخصيات التي يتم تناولها وآلية الكتابة وفضاءات البحث تروق لي. ولم يتوقف دور السيف صحافيا وباحثا وناشرا عند إضافته للمشهد الثقافي من إسهامات يعتد بها بل هو إضافة لسردية التاريخ السعودي الذي لم يكتب أو كتب بعثرات كبيرة وكثيرة، ويكفي أن تطالع عناوين إصداراته ومجمل إصدارات دار جداول لتعرف بأنه كان جزءا أصيلا ومؤثرا في كتابة التاريخ السعودي الجلي والذي لم تتح الفرصة له أن يكتب بهذه الجدية والصرامة البحثية من بعد. رحلة السيف رحلة من الرحلات التي يستطيع المرء أن يتباهي بها فهي نموذج حقيقي للمثابرة للتميز دون أن تلتفت للوراء لتقول أنا أنجزت، بل دائما كانت تتبنى خطاب “أنا خطوة رحبة في درب طويل” ومع كل كتاب يصدره أو ينشره يعزز هذا الرهان بموقف حقيقي في سوق النشر لا دكاكين الطباعة. وما دمنا في مقام الاحتفاء المستحق فآمل فعلًا أن يتم تكريس هذه النماذج في مشهدنا الثقافي فهي الرافعة التي تجعل المشهد أكثر حركية وديمومة وأنصع أثرًا، وإلا فستذهب كل جهودنا هدرًا، فالصحافة الثقافية الجادة والبحث الإشكالي والصارم والنشر المسؤول هم الأدوات الأساسية التي تجعل المشهد الثقافي والفكري يعيش زمانه ويترك تراثًا لمن يقتفي أثره. محمد السيف صديقًا وصحافيا وباحثا وناشرا لا أملك أن أقول في ختام هذه التداعيات إلا: شكرا من القلب لأنك كنت بيننا.